مدخل عام إلى مقياس المقاربات النقدية المعاصرة
المحاضرة الأولى:
مدخل عام إلى مقياس المقاربات النقدية المعاصرة:
1-توطئة منهجية:
ينزع إطلاق تسمية المقاربة النقدية على هذا المقياس إلى الدقة والمرونة في قراءة النصوص الأدبية وتحليلها، وذلك مقارنة بالتسمية السابقة (المناهج النقدية)[1] التي تحمل معنى المعيارية والسلطة المنهجية والصرامة العلمية المفروضة على النصوص الإبداعية دون مراعاة خصوصياتها أو تجاوبها مع طبيعتها المميزة.
من هذا المنطلق نفضل مصطلح المقاربة Approcheالذي وإن كان يبدو ملتبسا بمصطلحات متاخمة ومجاورة له من قبيل المنهج والنظرية والاتجاه والمذهب...وغيرها، إلا أنه يبقى أكثر انسجاما ودقة وملاءمة وتحررا من قيود حرفية المنهج وإسار صرامته الإجرائية التي كبلت الإبداع الأدبي، وحالت دون تصريحه بأسراره وبوحه بمضمراته ومكتنزاته.
إن مفهوم المقاربة لا يدعي الإحاطة الشاملة بمعنى النص، كما أنه لا يفرض عليه أدواتها من الخارج، وإنما يجعلها مستنبطة من النص ومستخلصة من داخله، وبهذا المعنى لا يمكن أن يوجد منهج أو مقاربة متكاملة، كما لا يوجد معنى تام ونهائي للنصوص الإبداعية؛ ذلك لأن المناهج والمقاربات، ستظل قاصرة عن بلوغ مدراك النصوص، وتقصي معانيها ودلالاتها، وسيظل القراء على أبوابها يجربون المفاتيح المناسبة من أجل فتحها، وفك تشفيرها وإزالة غموضها وتعتيمها.
ولا شك أن أسبقية النص وتعاليه، يجعل المقاربة أو المنهج في تبعية مستمرة ودائمة له، طائعا ومذعنا، يسترشد بهداه، ويتعدل ويتكيف ويتحور وفق خصوصياته ومكوناته، مما يرسخ ثقافة الإنصات والإصغاء الجيد إلى النص، ويقود في النهاية إلى إحداث المثاقفة الحقيقية -المشروطة بخصوصيات الثقافة العربية- مع منجزات النقد الغربي وثقافته، وإلى التفاعل الإيجابي والمثمر مع مناهجه ومقارباته. وبمعنى آخر أن تصورنا للعلاقة بين المقاربة المنهجية والنص الأدبي، ينزع نحو تأصيل المناهج والمقاربات النقدية وتكييفها وتعديلها بما يتلاءم وخصوصيات الهوية العربية، والنص الإبداعي العربي؛ إذ (لا طاعة للمنهج في معصية النص)، أو بعبارة الناقد يوسف وغليسي (لا طاعة لمنهج غربي في معصية النص العربي).
2-المقاربات النقدية المعاصرة ومسارات التحول في النقد العربي المعاصر:
يسجل الدكتور "محمد عباس" في كتابه "دراسات تطبيقية" بعض الملاحظات والتحرزات تخص طبيعة تكون النقد الغربي ومسارات تحوله في بيئته الأصلية مقارنة بنسخته في البيئة العربية. فبالرغم من أن النقد العربي -كما يرى الباحث- يعد مجرد صدى ومحاكاة للنقد الغربي إلا أنه لا يطابقه تمام المطابقة، ذلك لأنه يرى بأنه[2]:
- إذا كان النقد الغربي قد مارس في كل تاريخه فعل الإنتاج، فإن النقد العربي قنع في معظم تاريخه بمستوى التلقي.
-إذا كان النقد الغربي قد راكم إنجازه، مستجيبا في ذلك، لجملة حاجات أملاها التطور الطبيعي لمجتمعه، ولمعارف مجتمعه، فإن النقد العربي راكم معرفة يصعب تسويغ الحاجة إليها في واقع مجتمعه، وواقع معرفته المعاقة.
-إذا كان النقد الغربي قد عرف سيرورة منطقية ومسوغة، فإن النقد العربي عرف انتقالات حادة ومشوهة.
-إذا كان النقد الغربي قد عاش تحولات طبيعية، فإن النقد العربي عرف تحولات مبتسرة.
وكان "سعيد يقطين" قبله قد بين العلاقة التي تميز طبيعة تعامل النقد العربي مع النظريات الغربية، وكشف عن المفارقات الحاصلة بين كيفيات إنتاج هذه المعرفة النقدية وتبلورها في محاضنها الأصلية في الثقافة الغربية، وبين طرائق تلقيها وكيفيات إنتاجها وتكونها ومسارات تحولها واستنباتها في البيئة العربية، وهذه المفارقات النقدية حددها من خلال ثلاثة مسارات وسمها كالآتي[3]:
2-1-مسار الانقطاع: وذلك أن طبيعة إنتاج النظريات النقدية الغربية عندنا تتعدد إبدالاتها وتتحول بتعدد المنعطفات الكبرى والتحولات التاريخية التي عرفها المجتمع العربي، وعند كل منعطف جديد يجد الفكر النقدي والأدبي العربي نفسه في حاجة إلى خلفية معرفية ومرجعية نقدية غربية لسد الفراغ الحاصل وجبر النقص المسجل، الشيء الذي يعني أن هذه الإبدالات النقدية لا تتحقق على أساس تطور طبيعي وداخلي للاتجاهات النقدية التي تمارس في الواقع الأدبي العربي، وتبعا لتبدل مجالات الإبداع، وتبلور اتجاهات جديدة فيه. وذلك يختلف تماما مع صيرورة إنتاجها في الثقافة الغربية التي يكون إنتاج المعرفة فيها نابعا من حاجة أملتها ظروف المجتمع، واستجابة لتطوره الطبيعي.
2-2-مسار التفاوت الزمني: ويعني به أن مسألة تلقف النقد العربي للمعرفة النقدية الغربية لا يتم من خلال مواكبتها وتحقيق التكافؤ معها، ومن خلال الاطلاع عليها والتفاعل معها بشكل يكون متزامنا -على الأقل- مع المرحلة الزمنية التي تبلورت فيه، بل إن انتقالها إلينا لا يتم إلا بعد مرور مدة زمنية طويلة، وبعد إعلان موتها، وانتهاء صلاحيتها، واستنفاد طاقتها وتجاوزها في محيطها الثقافي الذي ظهرت فيه.
2-3-مسار الإلغاء: يقوم هذا المسار في النقد العربي من خلال قيام إبدال نقدي على إلغاء إبدال نقدي سابق عليه، عبر القطيعة معه بشكل جذري بحيث لا يدع مجالا للرجوع إليه للإفادة منه أو تطويره في فترة لاحقة. وبهذا فقد جعل الإلغاء معرفتنا الأدبية والنقدية لا تقوم على أساس التحول الطبيعي (من-إلى). ولكن القفز الفوقي (إلى-إلى).
إن العلاقة غير المتكافئة بين الغرب منتجا للمعرفة والعربي متلقيا لها جعلت نقدنا العربي يعيش تحت تأثير هذه المفارقات والمسارات النقدية المتفاوتة، الأمر الذي أحال العملية النقدية في البلدان العربية ومنها الجزائر على ضروب من الفوضى والاجترار الحرفي للمناهج والنظريات الغربية، وعلى التنويع في مراكمة البدائل النقدية ورصفها، ومحاولة فرضها من خارج النص الأدبي العربي، دون مراعاة لخصوصية هذا النص العربية، وخصوصية المجتمع ومتغيرات الواقع والتحولات السائدة فيه، وذلك ما قاد في النهاية إلى ركوننا في تبعية مستمرة وملاحقة دائمة لما تنتجه الثقافة الغربية، دون إحداث النقلة النوعية المرجوة، ودون تحقيق التفاعل الإيجابي والاستفادة المثمرة من معارفها.
انطلاقا مما سبق وعلى الرغم من النقائص المسجلة والمفارقات الحاصلة والعلاقة غير المتكافئة بين النقد الغربي والنقد العربي عامة، إلا أننا لا ننفي مسألة تفاعل النقد العربي والجزائري على وجه الخصوص مع المعرفة النقدية الغربية، وكان له أن يجرب ثلاثة إبدالات نقدية تختزل مسارات النقد الأدبي في بلادنا، وهي كما حددها "سعيد يقطين" في أثناء متابعته لمسارات النقد العربي عموما[4]:
1-الدراسة التاريخية للأدب (المرحلة اللانسونية).
2- دراسة المضامين الاجتماعية وأبعادها الإيديولوجية (الواقعية).
3-التركيز على الأشكال ونظريات التأويل (البنيوية وما بعدها).
وفي هذا الصدد يلخص الباحث "رشيد بنحدو" -في سياق حديثه عن الثورة التي أحدثتها نظرية التلقي في السبعينيات- المسارات التي مر بها النقد الغربي والعربي، ولعل كلامه ينطبق على المسارات التي مر بها النقد الجزائري كذلك؛ حيث رأى "أن تحليل الأدب وتأويله في السياق الغربي (وإلى حد ما في السياق المغربي والعربي كذلك، مع مراعاة بعض الفوارق) كانا في الجملة يتمان من ثلاث زوايا متعارضة، لكنها "متعايشة": فمن زاوية أولى، كان يؤرخ للآداب القومية بالتركيز على الأدباء أنفسهم (سيرهم والعوامل الخارجية المؤثرة فيهم)، مع حرص استطرادي على تصنيف أعمالهم في خانات مقررة سلفا تبعا لعدد من المتغيرات السياسية أو المهيمنات الغرضية أو السمات الفنية. ومن زاوية ثانية، كان ينظر إلى الأدب بما هو ممارسة إيديولوجية ترتبط جدليا بالبنية الاجتماعية-الاقتصادية السائدة، بحيث يصدر عنها ويعكسها لزوما. ومن زاوية ثالثة مغايرة لهذه، كان ينظر إلى النص الأدبي بما هو نشاط لغوي وتكييف شكلي لا يتعلقان إطلاقا بأية اعتبارات خارجية محتملة، ومن ثم فهو يتمتع باستقلاله الخاص كبنية مكتفية بذاتها"[5]4. من هذا المنطلق يتضح أن النقد الجزائري كصنوه في المشرق العربي عاش -تقريبا- نفس الظروف والملابسات على الأقل في ممارسته لهذه الإبدالات النقدية السابقة عبر مسار تحوله، وإن بنسب متفاوتة، حيث سجلنا حضورا للمناهج السياقية متمثلة في المنهج التاريخي والاجتماعي والنفساني، والمناهج النسقية النصانية متمثلة في المنهج البنيوي والسيميائي والأسلوبي والتفكيكي....وغيرها.
[1]: أعادت اللجنة البيداغوجية الوطنية لميدان اللغة والأدب العربي في اجتماعها المنعقد بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة بتاريخ: 05 ماي 2018 النظر في بعض المقاييس العلمية ومفرداتها، فأدخلت بعض التعديلات، واقترحت تسميات جديدة لبعض المقاييس، ومنها في مرحلة الليسانس، اعتماد تسمية مقياس "مقاربات نقدية معاصرة" في السداسي الرابع بدل تسمية "المناهج النقدية المعاصرة"، فضلا عن التعديلات الطارئة على المفردات المقررة في البرنامج الوزاري.
[2] : محمد عباس، دراسات نقدية، دار القدس العربي، وهران، الجزائر، ط1، 2016، ص. 18.
[3] : سعيد يقطين وفيصل دراج، آفاق نقد عربي معاصر، دار الفكر، دمشق، بيروت، لبنان، ط1، 2003، ص. 28، 29، 30.
[4] : سعيد يقطين وفيصل دراج، المرجع السابق، ص. 21.
[5] : هانس روبيرت ياوس، جمالية التلقي: من أجل تأويل جديد للنص الأدبي، تقديم وترجمة، رشيد بنحدو، منشورات ضفاف، بيروت، كلمة للنشر والتوزيع، تونس، دار الأمان، الرباط، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2016، ص. 11.