الدرس 12: النقد الموضوعاتي
النقد الموضوعاتي
1-مفهوم المقاربة الموضوعاتية:
1-1-وقفة مع المصطلح:
تعد المقاربة الموضوعاتية منهجا نقديا حديثا في دراسة النصوص الأدبية شعرا ونثرا، وقد ظهر هذا المنهج في أوروبا في ستينيات القرن الماضي، أما في الوطن العربي فقد ظهر ظهورا محتشما ومتأخرا بما يفوق عقدا من الزمن. وهو بذلك يسعى إلى الإمساك بتلابيب الموضوعاتية المهيمنة في النص الأدبي انطلاقا من مجموعة من الآليات والمداخل الحرة؛ ذلك بالنظر إلى امتداد النقد الموضوعاتي وتداخله مع حقول معرفية ونقدية متنوعة، ومن أجل ذلك وجد المختصون صعوبة كبيرة في إيجاد تعريف دقيق له، أو حصره في آليات إجرائية محددة وصارمة. ولعل ذلك ما حمل جون بول ويبر إلى الصدع بالقول: "احذروا الموضوع: Attention au thème". وتجدر الإشارة هنا إلى الالتباس الحاصل بين تعريف الموضوع والموضوعاتية، هذه الأخيرة التي تشكل مدار اشتغال النقد الموضوعاتي:
أما الموضوع فيعرفه جان بيار ريشار بأنه "مبدأ تنظيمي محسوس، أو ديناميكية داخلية، أو شيء ثابت يسمح لعالم حوله بالتشكل والامتداد. والنقطة المهة في هذا المبدأ تكمن في تلك القرابة السرية؛ في ذلك التطابق الخفي والذي يراد الكشف عنه تحت أستار عديدة". (عبد الكريم حسن، المنهج الموضوعي نظرية وتطبيق، ص. 38).
وانطلاقا من تعريف ريشار، وبشكل ملتبس بين الموضوع والنقد الموضوعاتي يقول سعيد علوش: " ...وبذلك يصبح مفهوم الموضوعاتي في الحقلين العربي والغربي، هو التردد المستمر لفكرة، أو صورة ما، فيما يشبه لازمة أساسية وجوهرية، تتخذ شكل مبدأ تنظيمي ومحسوس، أو دينامية داخلية، أو شيء ثابت، يسمح للعالم المصغر بالتشكل أو الامتداد". سعيد علوش، النقد الموضوعاتي، ص: 07.
وأما بالنسبة للنقد الموضوعاتي فيعرفه ميشال كولو بأن "الموضوعاتية تسعى إلى إبراز المعنى المضمر للعمل الادبي. هذا المعنى غير معطى، ولكن يمكن إعادة تشكيله انطلاقا من النص، وفقا لمنطق يظل محايثا ولا يتعارض مع معناه الظاهر". أما بول آرون فيرى في معجم المصطلحات الأدبية الذي ترجمه محمد حمود أن هذا المنهج يقوم على "تخصيص لمفهوم الموضوع بالذات، وبحسب الفكرة التي يقيم فيها الوعي علاقة بين الموضوع والعالم الذي يندرج فيه، يستطيع النقد وصف كيفية الوجود في عالم الاديب الخاص، بفهمه للواقع كما يظهره النص (...) يقوم النقد الموضوعاتي بالكشف عن خرائطية شاملة بواسطة الخيال، كما مارسه هؤلاء الأدباء".
وعلى الرغم من هذه المحاولات الساعية إلى ضبط المقاربة الموضوعاتية وإيجاد تعريف لها، إلا أنه يظل منهجا بلا هوية ومنهجية واضحة، أو ميدانا نقديا هلاميا تتداخل فيه مختلف الرؤى الفلسفية والمناهج النقدية (الظاهراتية والتأويلية والبنيوية والنفسانية...) التي تتضافر مجتمعة من أجل التقاط الموضوعاتية المهيمينة داخل النصوص الأدبية، وفي التحامها بالتراكيب اللغوية المشكلة لها.
أخيرا يمكننا الخلوص إلى أن المنهج الموضوعاتي عموما منهج يلاحق موضوعاتيات الأثر الأدبي وتفرعاتها الموضوعاتية بطرائق إجرائية مختلفة من ناقد إلى آخر بغية إدراك العالمي التخيلي للأديب في اتصاله بوعيه الذاتي. ولما كان النقد الموضوعاتي بهذه الأهمية أشاد به وأثنى عليه كثيرا الناقد الفرنسي الشهير "جيرار جيينيت" قائلا: "لا شيء في الحقل الأدبي تعلمت منه أكثر مما تعلمت من الدراسات التي أنجزها النقد الموضوعاتي، وانطلاقا منها رحت أبحث عن تطوير النقد، وهو تطوير قد يبدو الآن قد أدار ظهره لنقطة انطلاقه، لكن يبقى دائما أن النقد الموضوعاتي هو الذي علمنا كيف نقرأ، لأننا قبله كنا ربما ننجز أشياء مهمة، لكننا لم نكن نقرأ النصوص قراءة حقيقية". محمد السعيد عبدلي، المنهج الموضوعاتي في النقد الأدبي، ص: 07.
2-مصادر المقاربة الموضوعاتية :
تتعدد مصادر المقاربة الموضوعاتية وروافدها ومرجعياتها، حيث تهيمن الذات وتتمركز في صلب هذه المرجعيات المختلفة التي رفدتها وأمدتها بالأدوات النقدية والإجرائية، ومنها:
1-الرافد الفينومينولوجي:
شكلت الفلسفة الفينومينولوجية أو الظاهراتية[1] La phénoménologie مصدر إشعاع فكري ومعرفي استمدت منه المقاربة الموضوعاتية أبرز مقولاتها النقدية، وأهم أدواتها الإجرائية والتحليلية؛ ذلك لأن هذه الفلسفة تدعو إلى الربط بين الذات والموضوع؛ أي إنها تتوجه إلى إدراك الموضوع من خلال الذات التي ينحصر اهتمامها ويتجه شعورها وقصديتها إلى موضوع مركزي واحد تدور حوله وفي فلكه، وبذلك تسعى الفينومينولوجيا إلى قراءة الوعي وإدراكه من خلال تأثير الذات وإدراكها وعواطفها وانفعالاتها، لذلك يرى "إدموند هوسرل" Edmund Husserl رائد هذه الفلسفة "بأنّ كل وعي أو كلّ شعور هو وعي بشيء أو موضوع ما". وهو وفق هذا الطرح والتصور يخالف "ديكارت" في مقولته الشهيرة: "أنا أفكر، إذن أنا موجود". لتنقلب المعادلة وتصير "أنا أفكر في شيء مقصود (موضوع)، إذن أنا موجود". من هذا المنطلق تختص الظاهراتية بالكشف عن "الموضوع كما يُدرك، والموضوع كما يُتخيّل، والموضوع كما يُراد". وبمعنى آخر فهي تسعى إلى تقديم تصور عن الموضوع والوجود كما تتمثله وتدركه الخبرة الذاتية، لأن وعي الإنسان بنفسه من منظور الفلسفة الظاهراتية يجب أن يمر أولا بوعيه بالعالم، بخلاف الفلسفة العقلية الديكارتية التي تنطلق في تحديد مسألة الوعي من وعي الإنسان بنفسه، لينتهي بعد ذلك إلى تحقيق وعيه بالعالم. فهي تؤسس تصوراتها وتبني إدراكها للأشياء على العقل وحده، وترفض شهادة الحواس كأداة معرفية؛ لأنها ليست مصدر ثقة في نظر ديكارت؛ ولأنها كثيرا ما تكون عرضة للأوهام والتخيلات الخاطئة والمزيفة. وفي هذا الصدد يضرب "ديكارت" مثالا عن الحلم الذي يجعل الإنسان يعتقد بأنه يعيشه حقيقة؛ لكنه في الحقيقة غير ذلك، وقياسا على هذا يرى "ديكارت" أن ما نحس به ونستشعره قد يكون مجرد حلم كبير. ويضرب مثالا آخر على إثبات وجود الذات وامتدادها وديمومتها في الفكر قبل الجسم والشكل بقطعة الشمع التي يرى أنها عندما تتعرض للحرارة والذوبان يختفي لونها وشكلها وملمسها ويبقى أثرها وامتدادها وماهيتها في الفكر؛ فالفكر وحده من يمتلك القدرة على إدراك ماهية الأشياء ووجودها المادي والمحافظة على ثباتها وديمومتها، التي يستمدها من فكرة الامتداد نفسها، لا من الحواس (اللون والرائحة والملمس والشكل) التي ليس بمقدورها أن تبقي على هوية شيء ثابتة وقارة؛ لذلك لم تعد مصدر ثقة بالنسبة لديكارت، لأنها متغيرة ومتبدلة. وبهذا يكون العقل وحده أساس إدراك الذات ووجودها وهويتها، وهو معنى أنا أفكر، أنا موجود؛ أي إن الذات توجد لحظة التفكير، ولا ينبغي أن نشكك في وجودها؛ لأن الذي يفكر هو الذات.
أفضى قلب هذه المعادلة الديكارتية (أنا أفكر، إذن أنا موجود) «Je pense, donc je suis » j'existe» je pense donc « إلى بلورة المعادلة الفينومينولوجية (كل وعي هو وعي بشيء ما) «Toute conscience est conscience de quelque chose» التي قادت إلى بناء تصور منهجي وعلمي في دراسة النصوص الأدبية والكشف عن مختلف أبعادها الجمالية والمضمونية عرف "بالمنهج الموضوعاتي" الذي يستند إلى هذه الفلسفة الفينومينولوجية وإلى أفكارها وطروحاتها المنبثقة من المعادلة الهوسرلية السابقة، التي وجدت صداها في بعض المعاجم والموسوعات الفلسفية وفي بعض التعريفات النقدية التي يمكن استحضارها في هذا السياق، من أجل توكيد العلاقة الحميمية بين الفلسفة الفينومينولوجية والنقد الموضوعاتي.
يرى عبد الرحمان بدوي في موسوعته الفلسفية أن الفينومينولوجيا "منهج...وهذا المنهج يقوم على رؤية الماهية في الشعور. في سبيل ذلك يستقرئ كل المعاني التي ترتبط بمفهوم ما، ابتغاء أن يستخلص منها هذه الماهية التي يسعى إلى رؤيتها. ويقوم هذا المنهج لتحقيق ذلك على خطوتين معياريتين:
1-التخلص من الأحكام السابقة.
2-الاتجاه إلى العيان المباشر بوصفه الوسيلة الوحيدة القادرة على إدراك الواقع في صفائه المحض". عبد الرحمان بدوي، موسوعة الفلسفة، ج2، ص61.
بينما يؤكد جيرار دوروزوا Gérard Durozoi بأن "الظاهراتية في مفهومها العام [تعني] دراسة وصفية لمجموعة من الظواهر. وتعني في الفلسفة المعاصرة، حركة فلسفية دشنها هوسرل، من أجل التأسيس لفلسفة فعالة قادرة بدورها على التأسيس لعلوم خاصة ومحددة. ومن أجل هذا يجب الرجوع دائما إلى الأشياء نفسها بهدف القبض على المعاني... [ذلك لأن] هوسرل لم يرد بنا بناء نظام، وإنما أراد فقط وصف ما نستطيع مشاهدته باتباع طريقة معينة". محمد عبدلي، المنهج الموضوعاتي، ص. 49.
وفي الحقيقة أن التعريفين السابقين، ليس إلا مجرد إعادة وتكرار لكلام هوسرل عن وظيفة الفينومينولوجيا ودورها الذي يختصره قوله: "أحاول فقط أن أرى وأن أصف ما أرى". محمد عبدلي، ص. 49. وهذا فضلا عن توكيدها على أسبقية الشيء في الوجود عن معناه، كون أن الإنسان هو الذي يقدم للشيء معنى بعد ظهوره وإدراكه له[2]. وفي هذا النطاق توجب التمييز "بين الشيء كذات مستقلة، وبين ظهور هذا الشيء في وعينا؛ فظهور الشيء في وعينا هو حالة من حالات وعينا بهذا الشيء، لأن ظهوره لنا يتغير بتغير المكان والزمان، بينما الشيء يبقى واحدا غير متعدد؛ ومعنى هذا أن الوعي بالشيء الواحد هو وعي متحرك ومتعدد. وهكذا نجد موضوعاتية نص أدبي ما، هي موضوعاتية واحدة بينما تختلف صور تجليها في وعي الكاتب، ومن ثم أشكال تجسيد هذا الوعي في النص الإبداعي"[3].
بناء على ذلك يؤسس النقد الموضوعاتي منطلقاته التحليلية على قراءة العوالم الموضوعية لدى الكتاب والمبدعين، ومحاولة الوعي بها، وإدراكها إدراكا حسيا، والسعي إلى تحسس صورها وتخيلاتها ومختلف علاقاتها المعجمية والمعنوية والدلالية. من هذا المنطلق "تبدو استفادة النقاد الموضوعاتيين من الفلسفة الظاهراتية جلية من خلال المبدأ الرئيسي الذي أسسوا عليه منهجهم، والمتمثل في إقرارهم بتأخر الوعي عن موضوعه. وهذا يعني في مجال الإبداع الأدبي أن النص، [بوصفه] وعيا، هو نتيجة توالدت من موضوع محدد ودقيق، وهو ما سبق تلخيصه في فكرة (كل وعي هو دائما وعي بشيء ما)؛ وهذا الشيء في مجال الأدب هو الموضوعاتية. أما الوعي فهو وعي الكاتب بهذه الموضوعاتية وقد جسدها نصا إبداعيا. وبهذا تتضح مهمة النقد الموضوعاتي التي تتمثل في القيام بتحليل النص الأدبي [بوصفه] وعيا فنيا، بهدف استكشاف موضوعاتيته، أي ما سبق التعبير عنه بشيء ما"[4].
ولعل ذلك ما دفع بعبد الكريم حسن إلى توضيح الطريقة أو الكيفية التي يتجسد بها الواقع في الوعي، من خلال استحضاره لهذا المثال التوضيحي عن اللون الأبيض الذي ليس -في نظره- "وقفا على لون الثلج، ولكنه يتعدى ذلك إلى ما يصعب حصره من المواد، كالسوسن والقطن وأوراق الكتاب. وكل لغة تأتي لتعبر عن هذا اللون بالمفردات الخاصة بها. إن هذه المفردات وتلك المواد ليست إلا مظاهر يتجلى بها جوهر واحد هو الأبيض. وما تبحث عنه الظاهراتية هو الوصول إلى الجواهر عبر المظاهر"[5].
2-الرافد البنيوي:
تعد البنيوية هي الأخرى منطلقا مركزيا في التحليل الموضوعاتي، حيث أمدته بأدواتها الإجرائية والمفاهيمية، ويظهر ذلك بجلاء من خلال استعارته مفاهيم البنية والشكل والنص والمعجم والمحايثة والتراكيب...وغيرها. وفي هذا الصدد يؤكد جان بيير ريشار على مدى الإفادة الكبيرة للنقد الموضوعاتي من البنيوية، إلى درجة أنه يعده "تجوالا في النص"[6]. وهو بهذا يجعلنا نستحضر تلك المقولة الشهيرة عند البنيويين التي تؤكد على "النص ولاشيء خارج النص"، الذي يعد مدار اهتمام البنيويين ويشكل بؤرة اشتغالهم ودراستهم الشكلية المحايثة.
لقد تجلى التأثير البنيوي في حقل المقاربة الموضوعاتية بصورة واضحة وجلية مع الموضوعاتية البنيوية لدى كل من جون بيير ريشار وعبد الكريم حسن في مختلف دراساتهم النقدية والتطبيقية.
يمكننا في هذا الإطار أن نتبين بعض أوجه هذا التأثير من خلال مفهومي الكلية ورؤية العالم البنيويين اللذين يشكلان رؤية موضوعية واحدة تختزل العوالم الإبداعية لدى الأدباء وتلخصها "في موضوع واحد كلي متجذر في أعماق الأديب، ينتظم عالمه المتخيل...وفي الحالة الموضوعاتية، تتحول "رؤية العالم" من صيغتها السوسيولوجية الطبقية إلى صيغة ذاتية تفسر الكون المتخيل لدى الكاتب"[7] وتعبر عن حالة من الوعي بشيء من أشيائه.
3-الرافد السيكولوجي:
يشكل التحليل النفسي ركيزة أساسية ينطلق منها النقد الموضوعاتي ويقيم عليها معظم تحليلاته وتحديداته للموضوعات والتيمات المتغلغلة والمضمرة ضمن البنيات النصية والأدبية، ومن هذا المنطلق فقد يمكّن التحليل النفسي الناقد الموضوعاتي من التعمق داخل البنية النفسية للعمل الأدبي بهدف القبض على تيماته المتواترة والإمساك بموضوعاته المتكررة والمهيمنة.
ويمكن فيما يلي أن نرصد بعض النقاط التي تدل على إفادة النقد الموضوعاتي من التحليل النفسي: (ينظر، يوسف وغليسي، التحليل الموضوعاتي للخطاب الشعري)
-انطلاق النقد الموضوعاتي من ذاتية الكاتب ونفسيته التي يتمحور تركيزها وترددها حول خدمة موضوع محدد وتيمة معينة. ولعل ذلك قد وجد صداه في تلك الصيحات المبكرة التي أشار إليها الناقد النفساني الشهير "شارل مورون" Charles Moron في أطروحته المتميزة (من الاستعارات الملحة إلى الأسطورة الشخصية: مدخل إلى النقد النفساني)، حيث لاحظ تسرب بعض الأفكار التحليلية النفسية إلى ساحة النقد الموضوعاتي وبخاصة ملمح الأنا العميق الذي تركز عليه الموضوعاتية. فضلا عن ملاحظته لأعمال غاستون باشلار بأنها تقوم على تحليل نفسي علمي.
-يتأكد ذلك الإمداد المعرفي، وتلك العلاقة الحميمية بين النقد الموضوعاتي والتحليل النفسي، من خلال القناعات الراسخة لدى أبرز رواد النقد الموضوعاتي الذين يفهمون الموضوع فهما سيكولوجيا، وهو ما أشار إليه ج.ب. ويبر jean paul weber الذي يرى أن "الموضوع يتأصل في الذكريات الأولى للطفولة، فهو ذو بنية معقدة غالبا، كثيرا ما تقتضي إطارا موضوعاتيا، يمتد الحدث الأصلي ضمنه". (يوسف وغليسي، التحليل الموضوعاتي للخطاب الشعري، ص. 42) أما ج.ب.ريشار فيرى بأن "الجذر، في مختلف الأحوال يبقى مرادفا للمركب أو العقد في قاموس التحليل الفرويدي". (يوسف وغليسي، المرجع السابق، ص. 42). كما نجده يصرح بشكل واضح "أن النقد الموضوعي الذي يكشف هنا عن معنى الرغبة، إنما يستجوب علاقته القوية بالتحليل النفسي وعلم الدلالة". (عبد الكريم حسن، المنهج الموضوعي نظرية وتطبيق، ص. 148). وعن التعريفين الأول والثاني يرى الباحث يوسف وغليسي بأن كليهما "يستدعي الولوج إلى الأعماق النفسية للمبدع".(يوسف وغليسي، المرجع السابق، ص. 42)
وبالإضافة ويبر وريشار، نجد جون ستاروبنسكي Jean Starobinski أحد أعمدة النقد الموضوعاتي كان طبيبا نفسانيا، مما دعاه إلى المراهنة على حضور التحليل النفسي في ممارساته النقدية الموضوعاتية، وقد بدا ذلك جليا في كتابه (العلاقة النقدية) La relation critique الذي يتضمن فصلا تحت عنوان: (التحليل النفسي والأدب).
4-الرافد الرومنسي:
قادت مراهنة الرومنسية على مبدأ الذات أو الذات الحساسة في إنتاج العمل الفني جل المهتمين بالنقد الموضوعاتي إلى اعتماد هذه المبدأ في اشتغالاتهم الموضوعاتية؛ ذلك لأن الرومنسية "نظرت إلى العمل الفني بحد ذاته على أنه ثمرة إبداعية أصيلة بفعل الوعي الوجداني الشخصي". (محمد أسامة العبد، المؤلف والنص: النقد الموضوعاتي، مجلة الموقف الأدبي، ع403). ومن ثمة يغدو الاهتمام الموضوعاتي مزيجا مركبا بين تجربة المبدع الوجدانية وبين بنية شكلية تؤول دائما إلى وعي هو وعي الذات؛ لذلك فقد رأى ستاروبنسكي أن العمل الأدبي هو "تزامن لبنية ما ولفكر ما مزيج من شكل وتجربة يتضامن تكونها". (مجلة الموقف الأدبي، ع403). أما دانيال برجز Berger Daniels فينتهي إلى القول "بأن النقد الموضوعاتي هو إيديولوجيا ابن الرومنسية". (يوسف وغليسي، المرجع السابق، ص. 35)
3-آليات المقاربة الموضوعاتية:
تنهض المقاربة الموضوعاتية على مجموعة من الآليات المنهجية، والأسس النظرية والتطبيقية التي تقود إلى الإمساك بالتيمات الأساسية المهيمنة في العمل الأدبي، وقد حصر هذه الآليات والأسس الناقد المغربي جميل حمداوي في المبادئ التنظيمية التالية: (جميل حمداوي، المقاربة النقدية الموضوعاتية، ص. 11، 12، 13).
-قراءة النص قراءة عميقة ومنفتحة.
-الانتقال من القراءة الصغرى إلى القراءة الكبرى.
-تحديد مكونات النص المناصية والمرجعية.
-التأرجح بين القراءة الذاتية والقراءة الموضوعية.
-البحث عن التيمات الأساسية، والبنيات الدلالية المحورية، والموضوعات المتكررة في النص الإبداعي.
-جرد هذه التيمات، واستخلاص الصور المتواترة في سياقها النصي والذهني والجمالي.
-تشغيل المستوى الدلالي برصد الحقول الدلالية، وإحصاء الكلمات المعجمية، والمفردات المتواترة.
- توسيع الشبكة الدلالية لهذه التيمات المرصودة دلاليا فهما وتفسيرا.
-رصد الأفعال المحركة والمولدة للمعاني في سياقاتها الصوتية والإيقاعية والصرفية والتركيبية والتداولية، مع دراسة دلالاتها الحرفية والمجازية، واستنطاقها فهما وتأويلا.
-الانتقال من الداخل النصي إلى التأويل الخارجي، والعكس صحيح أيضا.
-دراسة الموضوع المعطى من أجل البلوغ إلى الجانب الحسي في الأثر الأدبي، أو الوصول إلى البنية الموضوعية المهيمنة للعمل الإبداعي.
-حصر العناصر التي تتكرر بكثرة، وبشكل لافت، في نسيج العمل الأدبي.
-تحليل العناصر التي تم حصرها ورصدها اطرادا وتواترا (الاهتمام بالمعنى السياقي).
-المقارنة بين الظواهر الدلالية والمعجمية والبلاغية تآلفا واختلافا.
-جمع النتائج التي تم تحليلها لقراءتها تفسيرا وتأويلا واستنتاجا.
-ربط الدلالات الواعية وغير الواعية بصورة المبدع الذاتية والموضوعية.
وأما بالنسبة لثوابته المفاهيمية ومقولاته الجوهرية؛ فيجملها الباحثان عبد الكريم حسن ويوسف وغليسي في العناصر الآتية: (ينظر، عبد الكريم حسن، المنهج الموضوعي نظرية وتطبيق، ص. 38 وما بعدها، وينظر، يوسف وغليسي، التحليل الموضوعاتي للخطاب الشعري:بحث في ثوابت المنهج وتحولاته العربية ومحاولات لتطبيقه، ص. 19 وما بعدها).
1-الموضوع:
يعد الموضوع[8] مبدأ أساسيا تلتقي عنده جميع المفاهيم التي تؤسس للمنهج الموضوعاتي، لكنه يبقى مفهوما إشكاليا ونسبيا يستعصي على الضبط والتحديد، فهو مفهوم مختلف من ناقد إلى آخر وحسب توجه وأفكار كل واحد منهم أيضا، ولذلك لا يمكن وضع تعريف دقيق له، ولعل هذا الإشكال ناجم عن صعوبة إيجاد تعريف دقيق كذلك للنقد الموضوعاتي في حد ذاته، كما رأينا سابقا. وعلى الرغم من ذلك فيمكننا أن نقتصر على التعريف الذي وضعه له جون بيار ريشار، الذي يرى أن "الموضوع مبدأ تنظيمي محسوس، أو ديناميكية داخلية، أو شيء ثابت يسمح لعالم حوله بالتشكل والامتداد. والنقطة المهة في هذا المبدأ تكمن في تلك القرابة السرية؛ في ذلك التطابق الخفي والذي يراد الكشف عنه تحت أستار عديدة". (عبد الكريم حسن، المنهج الموضوعي نظرية وتطبيق، ص. 38). من هذا المنطلق يكون الموضوع هدفا أساسيا ونقطة مركزية ومحورية في منهج النقد الموضوعاتي.
2-الدال والمدلول أو شكل المضمون:
إذا كانت هذه الثنائية ترجع إلى سوسير لكن الطرح الذي تأثر به رواد النقد الموضوعاتي يتعلق بالتصور الذي وضعه يالميسليف متجاوزا الفهم السوسيري الذي يرى بأن اللغة شكل وليست مادة، لكن يالميسليف يقترح تصورا رباعيا يفصل بين محوري التعبير والمحتوى: (شكل التعبير ومادة التعبير/ شكل المضمون ومادة المضمون). وعلى هذا الأساس أفضى شكل المضمون إلى تبلوره إجراء أساسيا، وأداة منهجية في معاينة الموضوع واستكشافه في البنيات الأدبية والنصية، ولا سيما عند ريشار الذي عول على هذا المفهوم كثيرا في دراساته وأبحاثه المختلفة، التي تنطلق في "استنباط الموضوع من شكله اللغوي" أو ما اصطلح عليه "شكل المضمون".(يوسف وغليسي، م س، 28).
وهو التصور الذي اعتمده م.كولو في تمييز "مضمون الموضوع وشكله". (ميشيل كولو، النقد الموضوعاتي، تر، غسان السيد، الآداب الأجنبية، ص. 36).
3-التركيز على مفهوم البنية:
يركز النقاد الموضوعاتيون وبالأخص منهم ريشار على مفهوم البنية الذي يؤكد على أن القراءة الموضوعاتية معناها التساؤل عن البنية الخاصة المميزة للعمل الإبداعي، وإلى جانب البنية يستعمل مصطلحات مجاورة من قبيل: الهيكل، المعمارية، البنية الخفية، التشاكل، الرؤيا الموحِّدة، الرؤيا الكلية...وغيرها، وكل ذلك من أجل التوصل إلى إدراك العلاقة بين الشكل والمضمون.
4-مفهوم العمق:
يميز ريشار بين نوعين من المعنى، المعنى الظاهري والمعنى الخفي أو العميق، ومهمة النقد الموضوعاتي هي البحث عن المعنى الخفي للعمل الإبداعي؛ لذلك كلما أوغل النص في الغموض والعمق، يتوجب مع ذلك عمق في القراءة النقدية، وكي يتمكن النقد الموضوعاتي من الوصول إلى هذا العمق المكنون والمتشظي في الأعمال الإبداعية ينبغي استيعاب المفاهيم الثلاثة الأساسية على حسب ريشار وهي: المشروع الأدبي أو النقدي، والقصدية والوعي.
5-مفهوم المعنى:
الوصول إلى المعنى في النقد الموضوعاتي ليس عملية تأويلية أو تفسيرية وإنما هو عملية وصفية شاملة قائمة على الجرد والإحصاء والتنضيد والتصنيف؛ أي وصف المعنى من خلال تنظيم وترتيب العناصر المشتركة والمتآلفة والمنسجمة في حقل واحد، بهدف تحقيق التجانس الموضوعي الناتج عن انتظام مجموعة
من العناصر واتساقها في نظام ومقولات معنوية وموضوعية.
6-مفهوم الخيال:
يشكل الخيال مفهوما مركزيا ودعامة أساسية في تشييد صرح النقد الموضوعاتي، ويلتقي الخيال مع مفاهيم الحلم والإحساس والصور والفكر التي يستند إليها الأديب في بناء عالمه الإبداعي، وفي تشكيل موضوعاته ومراكمتها.
7-القرابة السرية: la Parenté secrète
يعد عنصر القرابة السرية، أو العائلة اللغوية بتعبير عبد الكريم حسن، من أهم المفاهيم التي يقوم عليها مفهوم المقاربة الموضوعاتية، ولاسيما عند جون بيار ريشار؛ الذي نلفيه يعول عليه كثيرا لدى تعريفه للموضوعاتية، إذ يقول: "الموضوع مبدأ تنظيمي محسوس...والنقطة المهمة في هذا المبدأ تكمن في تلك القرابة السرية، في ذلك التطابق الخفي، الذي يراد الكشف عنه تحت أستار عديدة". عبد الكريم حسن، المنهج الموضوعي، ص: 46-47.
انطلاقا من هذا التعريف يبدو أن مسألة الكشف عن القرابة السرية داخل النصوص الأدبية متعلقة بالدرجة الأولى بإدراك العلاقات الخفية التي تربط بين الوحدات النصية، وبالتوغل في أعماق هذه النصوص وتتبع خيوطها الرفيعة التي تبني نسيجها ونظامها الداخلي والموضوعي، إذ لا يتوقف العمل على مجرد استيعاب مضمونها الفكري الظاهري السطحي والمباشر، وإنما انطلاقا من عملية الربط بين مختلف تجارب المبدع والكاتب التي تتعالق وتتصادى وتتردد بين ما ينتجه من نصوص. إنها بكل بساطة تجربته في الحياة متجلية في وعيه وفي عالمه الخيالي، وفي مجموع نتاجاته الفنية والأدبية التي تجمعها صلات عضوية وثقى، ويوحدها خيط القرابة السرية. يقول ريشار:"لا يمكن أن يوجد انفصال بين التجارب المتنوعة للإنسان الواحد، سواء تعلق الأمر بالحب، بالذكرى، بالحياة الحسية، أو بالحياة الفكرية. فالمجالات التي تبدو أكثر انفصالا عن بعضها بعضا تحتوي بداخلها الأشكال نفسها". محمد السعيد عبدلي، ص: 80.
8-التعديلات الموضوعاتية:
تقوم النصوص الأدبية وتتشكل بنيتها على التعديلات التي تنتجها الموضوعاتية بشكل مستمر؛ ذلك لأن أي موضوعاتية إلا وتشكل نواة ينبثق منها النص الأدبي؛ إذ تفضي التعديلات إلى بلورة مشاهد مشابهة ومماثلة بفعل التحولات والتعديلات الطارئة على الموضوعاتية المركزية. ولئن كانت هذه المشاهد المتولدة تبدو مختلفة ومغايرة إلا أنها تكون متقاربة في جوهرها وعمقها؛ ولأنها تعود إلى أصل واحد في النهاية هو الموضوعاتية الأساسية. يقول ويبر: "نعني بالتعديلات كل تماثل بالموضوع؛ وبتعبير آخر، التعديل هو الموضوع في صورة رمزية... [ويقول أيضا] كل موضوع يمكن أن يتنوع أو يتعدل حسب شبه مفضل، ثم يصبح هذا الشبه نفسه موضوعا لتشكيل ميدان آخر من التعديلات غير المباشرة في علاقتها مع الموضوع الأساسي الأول". محمد عبدلي، ص: 128، 129.
إلى جانب هذه العناصر يضيف يوسف وغليسي بعض الثوابت والخصائص المميزة للنقد الموضوعاتي، وهي: مركزية الذات وتسلطها في هذا الحقل النقدي، وحرية المدخل، والممارسة الانطباعية، وأخيرا خاصية ملاءمته لنقد الشعر، وصلاحية إجراء أدواته النقدية عليه، لكونه حقلا خصبا ومجالا حيويا للدراسة النقدية الموضوعاتية.
أما الباحث "محمد السعيد عبدلي" فيوجز أهم أدوات المنهج الموضوعاتي في الإجراءات الآتية:
1-الحلولية:
يرى ريشار بأنه يجب على الناقد الموضوعاتي أن ينطلق من داخل النص وأن يحل فيه، وهو بذلك يلتقي مع آراء البنيويين في نظرتهم إلى النص، وبالأخص رولان بارت الذي ترجع إليه المقولة الشهيرة "موت المؤلف". فمن هذا المنطلق يؤكد ريشار على أنه ينبغي للناقد أن يجعل النص الأدبي مركز اهتمامه وبؤرة اشتغاله، "منه ينطلق، وفيه يتحرك، وإليه يعود...وأن على نص ما أن يقرأ من الداخل حتى يستوعب". محمد السعيد عبدلي، ص: 85. يقول ريشار:"إن الكاتب، أو حقيقة الشاعر توجد في أدبه". ويقول أيضا:"إن الكاتب يوجد خارج العمل المنقود". محمد السعيد عبدلي، ص: 85. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فكرة الحلول في النص ليس معناها "قطع الصلة كلية بالظروف الخارجية، من مجتمع ومؤلف، لأن ذلك ليس أمرا ممكنا إلا بقدر معين؛ بل تكون الاستعانة بهذه الظروف في بعض المرات مفيدة لبناء قراءة مقنعة".محمد السعيد عبدلي، ص: 86. وهو ما يؤكده قول ريشار:"وعلى الرغم من أننا لا ننفي هذه العوامل الخارجية، إننا نضعها –على المستوى الذي نضع فيه منهجنا- بين قوسين لأنها لا تنبثق من داخل النص الأدبي". محمد السعيد عبدلي، ص: 86.
2-حرية المدخل:
لا يقدم النقد الموضوعاتي طريقة منهجية صارمة ومرسومة سلفا تساعد الناقد على التحليل، بقدر ما توكل مهمة الولوج إلى النص ومقاربته إلى الناقد نفسه، فهو ليس مجبرا أو مقيدا في اختيار الزاوية التي يعالج من خلالها النص الأدبي؛ إذ ينطلق بكل حرية في التوغل إلى أعماقه من أجل اكتشاف أسراره ودفائنه، وبهذا تختلف أوجه النظر ومنطلقات التحليل النقدي للنص الواحد، لأن ما يعد مدخلا صالحا في نظر ناقد ما هو غير ذلك لدى ناقد آخر. يقول ريشار:"وفي الخلاصة، فإنه لا وجود في القراءة الموضوعاتية لنقطة بدء ونقطة وصول. فالمدخل إلى حقل القراءة الموضوعاتية مدخل حر، مما يضفي عليها شيئا من السحر. وعندما يكتب أحد النقاد الموضوعاتيين في مقدمة دراسته أنه سيبدأ من نقطة ما، فإن هذه البداية ستكون بداية كتابته هو، لا بداية يلزمه بها منطق حقيقي للموضوع المدروس". محمد السعيد عبدلي، ص: 95.
على الرغم من أن مدخل القراءة الحرة إلى النص الأدبي يعدا إثراء له، وتنوعا في الدراسات المعدة حول النص الواحد، إلا أن ذلك قد يقود إلى التشتت في الآراء واختلافها وتعددها، وإلى سوء التقدير في اختيار المداخل الموصلة إلى إدراك الموضوع المهيمن في النصوص الأدبية، فضلا عن تعدد الموضوعات، وكذا السقوط في فخ الانطباعية والآراء الذاتية والشخصية للناقد نفسه، وبهذا تكون القراءة النقدية الحرة من أهم المآخذ التي سجلت على النقد الموضوعاتي.
3-القراءة المصغرة:
تشكل القراء المصغرة، أو القراءة المجهرية، إحدى عناوين كتب جون بيار ريشار، وهي تعني "عنده قيام التحليل الأدبي بالتركيز على جزء أو أجزاء صغيرة في النص الأدبي، قد يكون هذا الجزء: ...حرفا، كلمة، فقرة، مشهدا، حدثا، أو غير ذلك، مما يدخل في تكوين عالم النص وبنائه. وهو عمل يدخل في صميم مفهوم الموضوعاتية، التي هي النواة المركزية التي ينبثق منها النص الأدبي فينمو بفضل التعديلات، حتى يكتمل عالما خياليا". محمد السعيد عبدلي، ص: 98.
4-التكرار:
يؤدي التكرار دورا مهما في الكشف عن موضوعاتية النص. يقول جيل دولوز:"[نعد] أن وحدة ما قد وقع تكرارها عندما نسجل أثناء القراءة أنها قد تم ذكرها مرة ثانية على الأقل في مسار النص". محمد السعيد عبدلي، ص: 100. بينما يفضل عبد الكريم حسن أن يستعمل بدل التكرار مصطلح الإحصاء وهو الجهد الذي أقام عليه دراسته لشعر السياب في كتابه (الموضوعية البنيوية: دراسة في شعر السياب)، وقد وضح الخطوات التي يتبعها في اعتماده هذا الإجراء المنهجي قائلا: "نقطة البدء هي تكنيس الأعمال الشعرية الكاملة إحصائيا. فالإحصاء يجب أن يشمل الأغلبية الساحقة للمفردات إن لم يكن كلها. وبعد هذه العملية الإحصائية يتحدد لدينا الموضوع الرئيسي...الموضوع الرئيسي هو الموضوع الذي تتردد مفردات عائلته اللغوية بشكل يفوق مفردات العائلات اللغوية الأخرى". عبد الكريم حسن، الموضوعية البنيوية: دراسة في شعر السياب، ص: 33-34. وبهذا الفهم يكون عبد الكريم حسن مختلفا عن بيار ريشار في فهمه للموضوع الذي يدرك عن طريق الذات والانطباع الشخصي، ذلك لأن عبد الكريم حسن يبني نتائجه معولا على العمل الإحصائي للكلمات التي يفترض مع هذا الطرح أن يكون معناها ثابتا بتعدد أسيقتها ومواقع ورودها في النص، وهو ما جعل غريماس ينتقده بشدة معترضا على منهجيته الإحصائية، ومبينا بأن الطريق التي سلكها هي طريق الموضوعاتية المعجمية، وليس طريق الموضوعاتية الأدبية. عبد الكريم حسن، الموضوعية البنيوية: دراسة في شعر السياب، ص: 15. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى أن ريشار لم يثق كثيرا في النتائج التي يمكن أن يقدمها له التكرارا أو التردد أو التواتر؛ ذلك لأنه يدرك جيدا عدم ثبات دلالات الوحدات النصية المتواترة من سياق إلى آخر في النص. لذلك فهو يرى أن مثل هذه الدراسات القائمة على التكرار والتواتر "على الرغم من أهميتها القارة، فإن هذه الدراسات لن تستطيع، فيما نعتقد، أن تقودنا إلى حقائق نهائية...فتكوين معجم للترداد، هو افتراض لثبات دلالة الكلمات من مثال إلى آخر". محمد السعيد عبدلي، ص: 112. ويؤكد جيل دولوز هذا الأمر قائلا:"التكرار ليس مشابهة قصوى، إنه لا يكمن في إعادة إنتاج المطابق. فهو ليس هوية للمماثل، ولا معادلة للتشابه". محمد السعيد عبدلي، ص: 113
هذه تقريبا أهم العناصر المركزية والمقولات الجوهرية التي يختص بها النقد الموضوعاتي ويتميز عن سائر المقاربات المنهجية والنقدية الأخرى، وفي هذا المقام لا ندعي الإحاطة بها جميعا بالنظر إلى شساعة أطراف هذا الميدان وتنوع مصادره وأدواته، وصلات القرابة والوشائج المختلفة التي تربطه بحقول معرفية كثيرة.
المصادر والمراجع:
-يوسف وغليسي، التحليل الموضوعاتي للخطاب الشعري(بحث في ثوابت المنهج وتحولاته العربية ومحاولات لتطبيقه)، دار جسور للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 2017.
- يوسف وغليسي، التحليل الموضوعاتي للخطاب الشعري (كلام المنهج..فعل الكلام)، دار الريحانة للكتاب، الجزائر، 2007.
-محمد السعيد عبدلي، المنهج الموضوعاتي في النقد الأدبي: أسسه وإجراءاته، دار التنوير، الجزائر، 2020.
-محمد عبدلي، عالم كاتب ياسين الأدبي، دار القصبة للنشر، الجزائر، 2009.
-عبد الكريم حسن، الموضوعية البنيوية، دراسة في شعر السياب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1983.
-عبد الكريم حسن، المنهج الموضوعي نظرية وتطبيق.
-حميد لحمداني، سحر الموضوع، عن النقد الموضوعاتي في الرواية والشعر، دراسات سال،فاس المغرب، ط2 مزيدة ومنقحة، 2014.
-سعيد علوش، النقد الموضوعاتي.
-محمد عزام، المنهج الموضوعي في النقد الأدبي.
-جميل حمداوي، المقاربة النقدية الموضوعاتية.
-مجلة دراسات سميائية أدبية لسانية، العدد04، 1990 (دراسات سال المغرب).
-مجلة الموقف الأدبي، ع403، منشورات اتحاد الكتاب العرب.
-ميشيل كولو، النقد الموضوعاتي، تر، غسان السيد، الآداب الأجنبية، ع93، 1997.
[1] : ترجم مصطلح phénoménologie بــــ : ظاهراتية وظواهرية وظاهرياتية وظاهرية وظاهريات، بينما يرى الباحث يوسف وغليسي أن تعريب المصطلح (الفينومينولوجيا) يكون أرأف من ترجمته؛ لأنه بهذا الشكل يوهم القراء بأن الفينومينولوجيا مجرد بحث في ظاهر الأشياء أو السطح الخارجي للظواهر، في حين أنها تهدف إلى دراسة ماهيات الظواهر لا ظاهرياتها، أو -بمعنى أدق- تهدف إلى دراسة هذه الماهيات كما تظهر للوعي أو في خبرة الذات". ولذلك ترجمت الفينومينولوجيا إلى: "علم وصف الظواهر الشعورية".
[2]: ينظر، محمد السعيد عبدلي، المنهج الموضوعاتي، ص. 50.
[3]: المرجع نفسه، ص. 51.
[4]: المرجع نفسه، ص. 52.
[5]: عبد الكريم حسن، المنهج الموضوعاتي، ص. 41.
[6] : حميد لحمداني، سحر الموضوع، ص. 32.
[7] : وغليسي يوسف، التحليل الموضوعاتي للخطاب الشعري، ص. 40.
[8] : ذهب ريشار في نطاق تمييزه بين مفهوم الموضوع والموضوعاتية إلى القول بأنه :"يجب التفريق في قاموس النقد الجذري بين الفكرة الرئيسية والجذر. الفكرة الرئيسية هي كل عنصر لغوي يعود بإلحاح في الأثر الأدبي. إنها متعلقة بمفردات اللغة ومصطلحاتها. أما الجذر فإنه يختلف عن الفكرة الرئيسية ومجموعة التماعاتها ورموزها وجزئياتها". إضافة إلى ذلك، ومن أجل توضيح هذه الفروق راح يقدم مثالين: الأول عن أدب الشاعر الإسباني غارسيا لوركا، والثاني عن أدب الشاعر الفرنسي ألفرد دوفيني، إذ يقول: "الحشرة فكرة رئسية عند لوركا، وباستطاعة الناقد أن يضع جدولا بالنصوص التي تشتمل على هذه المفردة ويرسم حدود مضمونها ودلالتها. أما الجذر فهو التنويعات الضمنية لها، مثل: الحرير، الشرنقة، الطبيعة، ورموز المواسم والعطاء والزمن المتجدد والمتآكل. والطير فكرة رئيسية عند ألفرد دوفيني، لكن مشتقاتها مثل: الإنسان العاشق، الهائم، والنازف، تشكل جذورا لوحدة دلالية تشير إلى عقدة أوديبية تتحكم
في الشاعر". محمد عبدلي، ص: 67.