الدرس 14: النقد الثقافي
المحاضرة 14: النقد الثقافي (الأنساق المضمرة)
تحاول هذه الورقة البحثية مساءلة خطاب الأنساق المضمرة في رواية "هاوية المرأة المتوحشة" رائحة الأم لعبد الكريم ينينة بوصفه نصا ثقافيا ثريا ومؤثثا بامتياز، يعكس ثقافة البلد ويصورها، ويحفر في تاريخه، وينبش في نكساته وفي فواجعه ومحنه. ولئن كانت هذه الرواية هي باكورة أعمال الكاتب الروائية، إلا أن القارئ، يجد نفسه أمام نص عجيب، فريد، مخاتل، ومراوغ، ليس فقط من الناحية الجمالية واللغوية، ولكن من حيث التيمات النسقية التي يشتغل عليها، ومن حيث التأثيث السردي الذي أجاد في صناعته الكاتب بامتياز، وهو ما ينم عن مقدرة سردية فائقة وتحكم كبير في الكتابة، ويبشر بميلاد قلم واعد في عالم الإبداع الروائي بعد أن جرب كتابة القصة[i] من قبل، وذلك هو ديدن الكتاب الكبار يبدؤون بكتابة القصة قبل خوضهم غمار الكتابة الروائية. إن هذا النص يبدو أنه طبخ على نار هادئة، مما أكسبه تميزا وإشادة بين كبار النقاد والباحثين، وكفى بشهادة الناقد مخلوف عامر كي تمنح له المكانة والأهمية التي يستحقها.
تزخر الرواية بمخزون ثقافي هائل، هو ما بات يعرف لدى المختصين بـــــ"ثقافة النص"[ii]، أي ما يتجلى في عديد الأنساق والخطابات التي منها ما يطفو على السطح، ولا يحتاج بذل جهد كبير كي يكشف عنه، ومنها ما هو من قبيل الضمني والمضمر، ولا يكشف عنه إلا بالقراءة العميقة والمتفحصة التي تغوص داخل طبقاته السحيقة وفي أعماقه الدفينة، وفي ركاز ألفاظه وتراكيبه اللغوية، وقد يحتاج ذلك إلى استثمار المخزون القرائي، وتفعيل مصفاة التاريخ من أجل الوعي به من جهة، وإدراك مختلف أبعاده وحقائقه، التي رسمت وتشكلت في حقب زمنية متعاقبة.
ومن هذه الأنساق نسق الهوية، هوية المكان (المرأة المتوحشة)، وهوية البلد الضائعة جراء تأثيرات المحن التي توالت عليه وتعاقبت، ونسق العشرية السوداء التي أدخلت البلد في نفق مظلم بعدما كان يتطلع إلى الأفضل، ونسق الغربة والهجرة خارج الوطن التي تعد من نتائج الإرهاب ومسبباته، وكذلك نسق الثقافة العاصمية والأغنية الشعبية التي تعرف بها العاصمة، ومنها أيضا نسق الرائحة التي اتخذت أبعادا مختلفة في الرواية، فهي تتجلى من خلال رائحة الأم والبلد والمكان والإنسان، ثم نسق التاريخ والدعوة التي تعلنها الرواية من أجل إعادة قراءته وكتابته من جديد.
من هذا المنطلق تطرح هذه الدراسة التساؤلات الآتية:
-ما الأنساق المضمرة في الرواية؟
-ما دلالة هذه الأنساق، وما الوشائج والعلاقات التي تصل بعضها ببعض في بناء النسق العام في العمل الروائي؟
-ما الجماليات السردية واللغوية التي تتميز بها الرواية؟
-وإلى أي حد أسهم الروائي في بناء شعرية سردية للأنساق المضمرة في الرواية؟
1.تفكيك العنوان والنسق الدلالي المضمر:
العنوان الروائي اختصار لغوي، وتكثيف دلالي لمعنى النص، وهو تركيب أيقوني وسيميائي معبر عنه ودال عليه، بعد فك ضغطه وتشفيره، فهو إذن بمثابة النافذة التي نطل منها على النص، والبوابة المفضية إلى اكتشاف مخبوئه والبوح بأسراره ودفائنه.
وإذا كان العنوان الروائي خاضعا لهذه الصناعة اللغوية والأيقونية، فإنه يمثل أولى العتبات النصية التي تستفز القارئ، وتفتح شهيته من أجل تحسس رائحة المعنى في النص الأدبي على حد تعبير "رولان بارت" الذي يرى أن العنوان هو "الوسيلة الأولى لإثارة شهية القراءة"[iii]. وذاك هو فعل التأثير، وتلك هي إذا سلطة الإغراء التي يفرضها علينا العنوان الروائي المدروس سواء من خلال عنوانه الأصلي (هاوية المرأة المتوحشة)[iv]، أو من خلال عنوانه الفرعي (رائحة الأم).
يحيل العنوان الأصلي، وقد ركب تركيبا إضافيا إلى قصة الهاوية أو المنحدر الغابي الذي استوطنته ولجأت إليه هذه المرأة الجزائرية بعدما جنت وذهب عقلها بسبب فقدانها لولديها، وإن كان المستدمر ينسب القصة إلى امرأة فرنسية[v]، وذلك كعادته في تزوير الحقائق التاريخية وتجريدها من جزائريتها. ولعل الروائي باستحضاره لهاوية المرأة المتوحشة (القصة-المرأة-المكان)، يدعو من جهة أولى إلى التحقيق في الكثير من القضايا التاريخية والثقافية الموروثة عن الاستدمار، ومحاولة استرجاع هويتها المستلبة والمفقودة، ومنها بعض الأمكنة التي لا تزال تسمياتها تابعة للثقافة الفرنسية ومرتبطة بجرائمها ومخلفاتها في البلد، ومثال ذلك ما ذكرته الرواية عن بعض الأمكنة العاصمية كحي المدنية[vi] الذي لا يزال يطلق عليه اسم صالامبي (إيميل صالامبي)، وهو أحد القادة السياسيين الفرنسيين، وحي المحمدية الذي كان يطلق عليه سابقا تسمية لافيجري نسبة للكاردينال المسيحي المعروف الذي أسس سنة 1868 أول مدرسة بالمنطقة للآباء البيضles pére blanc، قبل أن تتحول هذه الكنيسة مؤخرا إلى مسجد الجزائر الأعظم، وهذه البادرة هي دعوة صريحة لاسترجاع الهوية الإسلامية الحقيقية للبلد.
ومن جهة ثانية تحيل الهاوية -بما أن الروائي اختار كلمة هاوية بدل منحدر- على مصير البلد الذي أوشك على الهلاك، وعاش مصيرا غامضا مع نهاية الثمانينيات، وفي فترة العشرية السوداء. وهي أيضا دالة على هاوية الفساد الذي تعيشه الجزائر، وعلى المشاكل التي تتخبط فيها كهجرة الشباب والأدمغة إلى الخارج، كما هو الحال بالنسبة للأطباء الذين نجحوا في مسابقة الالتحاق بالمستشفيات الفرنسية مؤخرا، ومن هذا المنطلق فالرواية تطرح الأسئلة المتعلقة براهن الجزائر وحاضرها ومستقبلها[vii]. كما أن أبناء الهاوية مرزاق وزيكو ورابح وساعد وعليلو ليسوا إلا أبناء الطبقات الفقيرة والمعدمة. فقد "كانت غابة هاوية المرأة المتوحشة مملكة منيعة للمتمردين والمهمشين والمنبوذين، لا تلتفت إليها الشرطة، ولا تطارد روادها، ولا تهدر طاقتها في سبيل ذلك، فعيونها والمتعاملون معها مبثوثون بينهم، يزودونها بكل صغيرة وكبيرة"[viii].
ومن جهة أخرى يحيل العنوان على مدى تعلق الإنسان بالمكان الذي يولد فيه، ويقضي فيه معظم حياته ومعيشته، رغم محاولات الاستلاب والطمس والتشويه التي طالته، ومما يؤكد ذلك العنوان الفرعي (رائحة الأم) سواء أكانت الأم هي المرأة التي تغمرنا عاطفة وحنانا، أو هي الوطن الذي يؤوينا، ويحتضننا، ونَـحِنُّ إليه دائما، وأينما حللنا وارتحلنا.
ولذلك جاء العنوان الفرعي (رائحة الأم) ليضيء العنوان الأصلي؛ وليختصر المسافة أمام القارئ من أجل إدراك الأبعاد الدلالية للنص ككل. فإذا كان العنوان الأصلي يضع القارئ أمام مكان موحش ومظلم، وأمام هاوية سحيقة تذكرنا بجهنم في قوله تعالى: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ). القارعة/9. وبقوله تعالى: (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ). الحج/31. في إشارة إلى الأوضاع التي عاشتها الجزائر، وأرغمت أبناءها على الهجرة والاغتراب، فإنهم رغم ذلك سيظلون متشبثين بحلم العودة إليه، وسيظلون يحنون إليه ومتعلقين به إلى الأبد، وهو ما يوضحه العنوان الفرعي (رائحة الأم) الذي يرمز إلى الأرض والوطن، وهي الرائحة التي يشتمها[ix] القارئ، ويشعر بانتشار عطرها الفواح منذ العتبات النصية الأولى التي تسبق متن الرواية، وهو الأمر الذي قصد إليه الروائي عندما أهدى عمله (إلى بلد البترول والشهداء). وعندما صدّر الرواية بهذه القصة الطريفة: (في مطار (شارل ديغول) سأل شرطي الحدود كاتب أغنية (يا المقنين الزين): "كم تنوي البقاء في فرنسا؟". فأجاب (عمي محمد الباجي): "سوف لن أمكث مئة وثلاثين سنة").
2.نسق البحث عن الهوية الضائعة:
كما رأينا من خلال العنوان فالرواية تبعث برسالة قوية من أجل السعي حثيثا إلى استرجاع هوية البلد باسترجاع إرثه الثقافي والتاريخي المستلب وإعادة رسم ملامح هويته التي افتقدها إبان الفترة الاستدمارية، وهي رسالة موجهة أساسا لأصحاب المسؤوليات، وللأجيال الصاعدة في محاولة لربطها بالوطن كتاريخ وكمكان نعيش فيه، وينبغي المحافظة عليه، وعلى ثقافته وتاريخه وهويته وأصالته. وذلك بالتحقق من تسميات مختلف الأمكنة والشوارع والمقدسات التي طمست معالمها وشوهت حقيقتها وزيفت على النحو الذي حصل مع هاوية المرأة المتوحشة، التي يرى بشأنها الروائي في حوار لجريدة الشعب ويكاند أجراه معه الكاتب "الخير شوار" أن الفرنسيين "حاولوا سرقة الفضاء بسرقة الأسطورة"[x]. وهذا الأمر ينطبق على الكثير من الفضاءات والأمكنة الجزائرية التي لا تزال حقيقتها مجهولة، وهويتها مزيفة، مثل: "بوز الرياح التي يسميها الناس خطأ بوزريعة ترديدا للنطق الفرنسي للتسمية، والبوز في اللسان العربي الفصيح هو الفم وما أحاط به، ولكون المنطقة هي الأعلى في المحروسة، ويتعرض سكانها باستمرار إلى الرياح، فكانوا كأنما سكنوا مصدر الهبوب. الأمر نفسه مع منطقة ذراع الرياح المقابلة لها في أحواز المحروسة، حيث تنطق درارية، ومناطق أخرى عديدة شوهت أسماؤها، لهيمنة عجمة لسان المستعمر الدخيل على اللسان العربي الأصيل"[xi]. وفي هذا توجه واضح من الكاتب نحو الأصالة ومحاولة استعادة هوية مقومات البلد ومعالمه المفقودة.
ويبدو أن الروائي قد تأثر بأصالة المكان (أدرار) الذي يعيش فيه منذ أكثر من عشرين سنة، ولذلك تجده يبحث عن الهوية والأصالة في كل شيء، في المكان واللباس وفي العادات والتقاليد وفي اللغة، كما أنه وجد تشابها كبيرا بين أدرار والعاصمة القديمة. كما تجلى ذلك من خلال انتقائه المفردات اللغوية المستعملة، ومحاولة تأصيلها بالعودة إلى المعاجم والقواميس العربية القديمة، ومنها تأصيله للفظة "المحشوشة" التي أطلقت على البندقية التي كان يستعملها الإرهابيون، وهي من "حش الحشيش أي قطعه، وكذلك فعلوا ببندقيات المواطنين المسالمين، بعدما اقتحموا مئات البيوت في ليلة واحدة، ومنها أطلق الناس عليهم اسم "الحشاشين" نسبة إلى سلاحهم، فصادف ذلك اسم طائفة "الحشاشين" المنشقة عن الفاطميين في أواخر القرن الخامس الهجري، والمعروفة في التاريخ العربي بالقتل وسفك الدماء"[xii].
وكذلك لفظة "يا خو" الخاصة بسكان العاصمة، وهي بمعنى: "يا أخي" أو "أيها الأخ"، والتي تعود أيضا إلى لفظة "الخاوة" التي كان تستعمل في حق المجاهدين إبان الثورة التحريرية. ومثلها كلمة الهُزّية أو الهُزّي التي كان يطلقها الناس على من يرهبون الناس، ويتطاولون عليهم مستغلين قواهم البدنية وعضلاتهم المفتولة ومدى تحكمهم في استخدام الأسلحة البيضاء. وهذه الكلمة وإن كانت تبدو غريبة إلا أنها فصيحة؛ لأن الهزهزة في المعجم: "تحريك البلايا والحروب للناس"[xiii]. وكذلك كلمة النِّطْع وهو عبارة عن بساط أو فراش من جلد أو بلاستيك توضع عليه رقاب المحكوم عليهم بالقتل من أجل منع تسرب الدم وإخفاء آثار عملية القتل.
3.نسق العشرية السوداء:
يكشف حدث مقتل زيكو في بداية الرواية عن نسق آخر مهيمن فيها، وهو نسق الإرهاب والعشرية السوداء، فزيكو الذي كان صديقا لمرزاق يقتل بالخطأ، بعدما طلب منه أن يجرب لبس الجاكيت الجلدية البنية أوالحمراء التي اقتناها مرزاق من تاجر الحقيبة عمار، وفي هذه الأثناء التي كان يشاهد فيها زيكو صورته في زجاج سيارة بائع الخضار، كان الإرهابي المكلف بقتل صاحب الجاكيت الحمراء قد تقدم بسرعة فائقة نحو زيكو موجها طلقة نارية على قفاه بالمسدس الذي كان يحمله فأرداه قتيلا يتخبط في بركة من الدم.
يشعر مرزاق المثقف بأنه كان مستهدفا، فيفكر في الهجرة، لكنه قبل ذلك، وبعد توالي صدماته بمقتل أصدقائه الواحد تلو الآخر، يدخل إلى مصحة دريد حسين، ويمكث بها سنة كاملة جراء إصابته بانهيار عصبي. يقول مرزاق بن سيدهم: أذكر أنني أصبت بانهيار عصبي ألزمني المكوث سنة كاملة في مصحة دريد حسين المشيدة في عمق غابة هاوية المرأة المتوحشة، في الجهة المقابلة لحي القبة، حدث ذلك في سنة 1995 وكان سني خمسة وعشرين عاما، تلك المرحلة العمرية الجميلة ارتطمت بأزمة قاسية مر بها البلد، ولم أتحمل أهوالها، كنت كطائر حسون وضع في قفص كبير مع الكواسر والجوارح [ويواصل] صدمة اغتيال صديق العمر زيكو كانت قوية جدا، لم أشاهد من قبل هذا الإجرام، ثم اغتيل صديقي الآخر رابح، ثم صديقي الثالث ساعد، ثم مونيا. توالى اغتيال أصدقائي المقربين، تم ذلك في ظرف ثلاثة أشهر...)[xiv].
لقد كانت الجزائر تعيش أجمل أيامها في فترة السبعينيات، وكانت تسير في اتجاه التطور والنهوض السريع، لكن الأحداث التي شهدتها البلاد مع نهاية الثمانينيات وخلال فترة التسعينيات، أدخلتها في نفق مظلم. يقول السارد على لسان مرزاق أحد أبطال الرواية: "سنوات اجتثت من رحم الزمن، كانت ستكون من أحلى سنوات عمرنا، لولا أن التغير السريع في البلد أجهضها، فتحول الإنسان فيه إلى شيء آخر، قادم من خارج التاريخ. لم نشعر بمرورها، ولسذاجتنا انتظرنا نهاية هذا الجنون الجماعي كل مطلع يوم جديد، فتشابهت الأيام ولم يتغير شيء، ذلك من فرط الأمل الذي كنا نحمله، أو يحملنا، فلبثنا متعلقين بالسلم، بالرغم من استحالته وسط الخبل المستشري"[xv].
يشهد الفصل الثاني (دحمان) من الرواية مشاركة شخصية الممرض دحمان في مجريات الأحداث، فيصيبه من حر الإرهاب؛ لأنه سيختطف رفقة صديقه الطبيب رضا الذي سيقتل، ويتمكن هو من الهرب، فيحمل جثته، فيقع أسيرا لدى عائلة بن داود، ليتعرف بعدها على خيرة التي كانت تخدمه في غرفة الأسر، وبعد ذلك يطلب يدها للزواج، غير أن القدر لم يكتب لهما ذلك؛ لأنها ستقتل في أثناء تبادل إطلاق النار بين الإرهابيين وعائلة بن داود، حينما قررت الهروب رفقة دحمان.
يتلقى دحمان بعد فراره من الأسر تهديدا من قبل الجماعات المسلحة بقتل عائلته، وبعد أن ألقوا القبض عليه، واشتراطهم بدل العفو عنه وعن عائلته أن يقدم لهم خدمة تتعلق بقتل شخص ملحد سيكون هو صديقه مرزاق، غير أن القدر سيختار مكانه صديقه الأول زيكو. يقول مرزاق:"كنت مصدوما وأكاد أختنق، وكان دحمان يبكي ويتخلص من سره، وينقله إلي ملفوفا في ألمه. كنت المستهدف بالقتل، وفي لحظة من الزمن نزعت رداء الموت وألبسته صديق العمر زيكو، لعلني قاتله الحقيقي، وأنا أجالس قاتلي المفترض، أو أن القدر أخذ مني صديقي زيكو ووهبني بدلا منه صداقة قاتله الذي زوجته أختي، فالخسارة تتكرر مثل تأتأة حادة لصبي خجول، نحاول دوما أن نكملها بطلاقة من عندنا، ربحا للوقت، حتى ننتقل بسرعة إلى خسارة أخرى أشد تلكؤا في القلب. أيتها الهزيمة الطازجة، ليس أمامنا سوى الهروب نحو هزيمة معلبة"[xvi].
ومن أجل رفع التأويل، فإن مقتل زيكو مؤشر على الفوضى العارمة التي عمت البلد وأن الكثير من الأبرياء راحوا ضحية القتل الخطأ، وبغير ذنب ارتكبوه، وأن استبدال الجاكيت دلالة على تغير الأوضاع في الجزائر التي ارتدت لباسا جديدا بعدما كانت تسير في الطريق الصحيح لولا الأحداث التي سبقت العشرية السوداء والتي أدخلت البلد بعدها في نفق مظلم. كما أن لون الجاكيت البنية أو الحمراء رمزية على العشرية الدموية الحمراء.
4.نسق الأغنية الشعبية والعادات والتقاليد العاصمية (أدب المدينة):
مما لاشك فيه أن العادات والتقاليد والطقوس والفن ومختلف أشكال الموضة واللباس والأكل، بل حتى توظيف الحيوانات والطيور في الأدب تعبر مجتمعة عن ثقافة البلد، وتكشف عن هويته وأصالته، وطرائق تفكيره وأنماط حياته وعيشه. وذلك ما عبر عنه توظيف الأغنية الشعبية في "هاوية المرأة المتوحشة"، فهي ترمز إلى الثقافة العاصمية، وتجسد معاناة أبنائها، وأحلامهم وآمالهم. فمثلا لما يستحضر الروائي أغنية "يا المقنين الزين" لعمي "محمد الباجي" إنما يستحضر الغربة والمعاناة والحنين والفقد وألم الفراق، من خلال معاناة طائر الحسون داخل قفصه وغربته، وفي الحقيقة أن محمد الباجي كان يقصد صديقه الشهيد بوعلام رحال الذي طبق في حقه حكم الإعدام من قبل السلطات الفرنسية في20 جوان 1957. ولا يختلف الأمر عن استحضاره لأغنية "يا الرايح وين مسافر..." لدحمان الحراشي التي أصبحت نشيدا خاصا ليس فقط بالمهاجرين الجزائريين، وإنما بجميع المهاجرين العرب.
ولما يستحضر أغنية "آش داني، علاش مشيت" للهاشمي قروابي التي كتبها في غربته بمرسيليا زمن العشرية السوداء، من خلال صوت صديقه "حسن" الذي تصرف فيها بذكاء:
واش داني ولاش مشيت في بلاد بعيدة حطيت
يا درى نشوف البيت ونشوف بلادي كي ولات
خليت حبابي والصدقان بـهــــم الـــعـــــــشــــرة تــــــزيــــــان
حياة حلوة في أمان مع خواني ماذا عديت
السعيد ورابح وعليلو ومرزاق زين القعدات
في جنان واغصان تميل كل واشرب واعمل نشوات
قولوا معايا يا لخوان إن شاء الله البهجة تزيان
إن شاءالله هذاحدالباس مادام الثعالبي عساس[xvii]
إنما يستحضر أجواء الهجرة والغربة والحنين إلى الوطن الأم بعدما غادره أبناؤه مضطرين زمن الإرهاب والعشرية الدموية الحمراء.
بقي أن نشير إلى أن الروائي بنى روايته من منطلق نسق بناء الأغنية الشعبية التي تبدأ موسيقاها بما يعرف في الثقافة الشعبية العاصمية باستخبار أو موال بطيء، ثم يرتفع الإيقاع نوعا ما بريتم طبيعي في حدود المعتاد، ثم ما يلبث حتى تنتهي الأغنية بمخيلص سريع تزداد فيه سرعة الريتم والإيقاع أقصاها تمهيدا لانتهاء الأغنية بما يسمى في الطابع العاصمي بالهدّي (الهدّاوي)، وهو ذو نسق موسيقي سريع، أو بما يسمى البروالي، وهو ذو ريتم أقل منه سرعة. فهذا النسق في مراحله الثلاث يتساوق إلى حد كبير مع تطورات الأحداث في الرواية التي جسدتها ثلاث لحظات حاسمة: لحظة البداية (مقتل زيكو) ولحظة تأزم الأحداث وتعقدها (مقتل أصدقاء مرزاق، ومرضه) ثم لحظة النهاية التي عرفت آخر صفحاتها تدفقا سرديا مكثفا للأحداث، وإجابات نهائية لجميع الأسئلة المعلقة على مدار الفصلين السابقين[xviii]، ويأتي إفشاء دحمان بسره لمرزاق أهم خبر في نهاية الرواية، وهي النهاية التي تشبه المخيلص في الأغنية الشعبية، وما يؤكد ذلك اختتام الرواية بمخيلص من أغنية "توحشت البهجة" بصوت "مصطفى":
بقاو على خير قومو نرحلو الله يرد كل غريب لأهلو[xix]
إن هذا البناء الذي قامت عليه الرواية ليس إلا الفصول الثلاثة التي تتكون منها الرواية في الأصل (مرزاق/ دحمان/ مرزاق ودحمان)، حيث يشكل الفصل الأول مرحلة الاستخبار أو بداية الأحداث، ويجسد الفصل الثاني مرحلة احتدام الصراع وتأزم الأوضاع، أما الفصل الثالث فهو بمثابة الخاتمة أو النهاية أو المخيلص في الأغنية الشعبية الذي يجمع خيوط هذه المغامرة السردية، ويربط بين الفصلين الأول والثاني اللذين يبدوان منفصلين، ويأتي في مقدمة هذا الترابط ذلك التشابه الكبير بين دحمان ومرزاق في اليتم والفقر والغربة والتفكير والأحاسيس والظروف المعيشية، فقد توفي والداهما وهما صغيران، ثم أمهما بعد اضطرراهما إلى الهجرة جراء تهديدات الإرهابيين، ولذلك جمع بينهما الكاتب في عنوان الفصل الثالث (مرزاق ودحمان).
وبهذا يجد القارئ نفسه أمام نسق سردي متصاعد تصنعه ثلاث محطات حاسمة هي:
1.بداية بطيئة تطرح فيها الرواية مشكلتها.
2.وسط متفاعل تتقاذف فيه البطل أزمات عدة تزيد من تصعيد حالته وتعقيد وضعه ويبلغ فيه التصعيد الدرامي ذروته.
3.نهاية وحل سريعين، تمثلان المخرج أو الحركة الختامية أو القفلة (ويقابلها المخيلص الهداوي في الأغنية العاصمية كمرحلة نهاية الأغنية والرقصة) التي تحسم جميع المصائر وتنهي الصراع[xx].
بالإضافة إلى الأغنية الشعبية تشير الرواية إلى الكثير من العادات والتقاليد الخاصة بالعاصمة، ومنها: (عادة الاحتفال بالأطفال بمناسبة بروز أسنانهم الأولى، وتربية طائر الحسون المقنين، وطلاء جدران المنازل بالأبيض وهو سر تسمية العاصمة بالجزائر البيضاء، وعادة عرس بغل وهي عادة خاصة بالحفل الذي لا ختان ولازواج فيه سوى أن صاحبه يدعو إليه من دعوه إلى أعراسهم ومناسباتهم من أجل استرجاع أمواله ومصاريفه التي دفعها إليهم في مناسباتهم، وعادة لبس بدلة الشنغاي الخاص بالبحارة، وأيضا عادة تصغير الأسماء للتحبيب كالعقيبة، وقهيوة، وشميسة، وعادة إضافة حرف (جي) المتوارث عن الأتراك لأسماء المهن كقولهم: حلواجي وقهواجي وخفافجي وساعاجي وخبارجي وسكارجي...وغيرها من العادات والتقاليد)، فضلا عن ذكر المأكولات الشعبية والحلويات والأطباق العاصمية (الحريرة، الكسكسي بالسكر والزبيب، العصبان، البوزلوف، الرشتة، طبق السكابتش، بطاطا بالفليو أو الريحان، الفطير باللبن أو الرايب، المحاجب بالفلفل الحار، حلويات العرايش والدزيريات، والبقلاوة والقنديلات...وغيرها). فكل هذه الأطباق تعكس ثقافة البلد وعاداته وتقاليده. تقول سيلفيا الفتاة البريطانية لما قدمت لها وريدة أخت مرزاق أطباق الطعام: "يستحيل أن يصل هذا الطبق إلى هذا الكمال؛ لو لم تكن وراءه ثقافة عظيمة..."[xxi].
5.نسق الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ:
تدعو الرواية إلى إعادة النظر في كتابة التاريخ، لأن الكثير من القضايا التاريخية هي بحاجة إلى تصحيح وتدقيق، ولاسيما منها تلك المثبتة في الكتب المدرسية، والمترسخة في الذاكرة الجماعية للمواطنين والمثقفين، وقد كان الكاتب جريئا في طرحه لهذه القضية التي تحتاج تكثيفا للجهود ممن تقع على عاتقهم المسؤوليات من أصحاب القرار ومن المثقفين والباحثين والمختصين في التاريخ. وفي الرواية ليست هاوية المرأة المتوحشة إلا "المكان المهمش تاريخيا فلا يعلم تاريخ تسميتها وقصة الأم التي سميت الهاوية بها إلاّ القليل مع تزوير واضح للتاريخ، هذه المرأة التي فقدت ابنيها ليست في بعدها الدلالي سوى الجزائر التي فقدت الثورة وفقدت الأمل في بناء دولة السلم والديموقراطية. هي الأم/الوطن الذي تعرض لتزييف تاريخي يحتاج تصحيحا مشتركا ومبادرة صارمة إلى القيام بذلك"[xxii]، وهيهات هيهات أن يتحقق ذلك.
وفي هذا السياق تبعث الرواية ببعض الرسائل المشفرة منها عدم الرضى على الوضع الاجتماعي والتاريخي الذي آل إليه البلد في ظل الصراعات السياسية والفكرية والإيديولوجية، وفي ظل الإرهاب الذي أرغم السارد مرزاق على العيش في مصحة نفسية والتكيف مع أجوائها بدل العيش والاندماج في المجتمع الذي فقد قيم التسامح والتعايش والسلم والأمن، وتحول إلى بؤرة للاقتتال والدم بين الإخوة وأبناء البلد الواحد. يقول مرزاق بعد تأكد الأطباء من تعافيه وقدرته على الاندماج في المجتمع: "...غير أني في حقيقة الأمر؛ لم ولن أكون مؤهلا للاندماج مع القتلة والمنافقين واللصوص والأنانيين والوحوش الموجودين في الخارج، أولئك الذين يعتقدون أنهم أصحاء، لكنني أنا مرزاق بن سيدهم، لا أصدقهم، ولن أصدقهم، ولا يوجد أحد يصدق مجنونا ادعى أنه غير ذلك"[xxiii].
إنها فترة العشرية السوداء التي تعد "فترة اقتتال عبثي وسفك للدماء وانهيار للقيم كانت المنعطف التاريخي الجزائري الذي تسبب في انهيار الوطن وقيم البناء. هي الذاكرة المعطوبة التي لا يمكن الشفاء منها أو تجاوزها وأي قراءة للراهن النفسي والاجتماعي والتاريخي للجزائر يجب أن ينطلق منها ومن تأثيراتها على بنيات المجتمع الجزائري المختلفة"[xxiv].
وفي ظل -كذلك- الأساليب السياسية المدجنة المسلطة على الشعب بهدف ترويضه وتنويمه. وهو عين إشارة السارد مرزاق في هذا المقطع: "كلما حاولت إفهامهم أنني سليم العقل، ردوا علي بالإيجاب، بعدها مباشرة يتم حقني لأستفيق في اليوم الموالي...لقد عودوني على جرعات منتظمة من مختلف الأدوية المهدئة والمنومة، وهذا يشبه ما يقوم به بعض السياسيين مع شعوبهم، ولم يكن الاختلاف إلا في الوسيلة"[xxv]. وبهذا يسعى الكاتب إلى توعية الشعوب ومحاولة ربطهم بتاريخهم وأصالتهم ودعوتهم إلى المحافظة على إرثهم، والاحتماء بالتاريخ والتحصن به، حفاظا على الهوية الجزائرية، وتصحيحا للذاكرة التاريخية المعطوبة والمشوهة.
6.نسق الرائحة:
يشكل خطاب الرائحة في الرواية موضوعا شميا طريفا، ومثيرا، ذلك لأنه بدأت في الآونة الأخيرة مقاربات النص الروائي تنفتح على قضايا واهتمامات متجددة، تمخضت من الرواية في حد ذاتها؛ لأنها عرفت تحولات كبرى في بنياتها الشكلية، وتنوعا وثراء في تيماتها وموضوعاتها، ولأنها الأجدر والأقدر على احتضان جميع الأجناس والفنون ومختلف والعلوم والمعارف الإنسانية. فهي إذا ذاكرة مفتوحة على الماضي والحاضر والمستقبل[xxvi]. ومن أجل ذلك كله عدت "مملكة هذا العصر"[xxvii] بدون منازع. ومن بين أهم هذه الموضوعات والتيمات موضوع الرائحة الذي استأثر باهتمامات بعض الباحثين العرب أمثال الباحث التونسي "رضا الأبيض" في بحثه المتميز "كتابة الرائحة في نماذج من الرواية العربية"[xxviii]، والباحث العراقي "رسول محمد رسول" في كتابه "عطر الكتابة السردية"[xxix]. وبهذا لم تعد الرائحة "مركبا كيميائيا أو مادة معجمية أو صورة بلاغية للتزيين فحسب، بل هي أيضا علامة سيميولوجية تواصلية وهي تجربة ثقافية وذاكرةٌ، فردية وجماعية، وهي استعارة رمزية غنية الدلالات"[xxx]، وثرية بالإيحاءات والتأويلات.
يضوع النص الروائي هاوية المرأة المتوحشة شذى وعطرا[xxxi]، وتنبعث منه رائحة فواحة، تُشتم بداية من العنوان وصفحة الغلاف، وتنتشر في ثناياه، وتتوزع عبر أرجائه مشكلة رمزية معينة، وتسهم في تكوين دلالة النص وبناء معانيه، ذلك لأن الرائحة لغة نتحسس أريجها وعبقها عبر الكلمات والجمل والحروف وبين ثنايا الأسطر. فإذا كان "الخطاب الروائي لا يتيح لنا فعل الشم على الحقيقة، فإن الصلة المتينة بين اللغة والفكر، وبين فعل الخطاب وتجربة الحياة كفيلة بتأكيد أننا نشم الكلام والحروف. فنحن لا نقيم باللغة فحسب، بل نقيم فيها. ونحن وإن كنا واعين بأن الرواية خطاب لغوي يجري على نحو مخصوص، فإن هذا الافتراض الأسلوبي والإنشائي على أهميته، لا ينبثق منه معنى ممكن إلا في ضوء تلق يأخذ بعين الاعتبار الأنساق المعرفية والثقافية والرمزية. فالنسق هو ما يمنح الخطاب طعما ورائحة"[xxxii].
من هذا المنطلق، فرائحة الأم التي يحيل عليها العنوان الفرعي، هي تلك الرائحة الزكية التي تميز كل أم وتخصها، وهي تلك الرائحة التي ظلت ترافق مرزاق حتى بعد فقدانه لأمه، وحتى وهو في غربته. يقول :"..وأستنشق رائحتها التي تعلق في ذاكرتي، وتستعيدها حاسة الشم لدي كلما تذكرتها، أو مثلت صورتها أمامي"[xxxiii]. وهي الرائحة التي ظل يشتمها من خلال أخته وريدة التي يقول عنها :"يكفيني أنها أزاحت غربتي، إنها رائحة أمي السرمدية"[xxxiv]. وهي أيضا الرائحة التي كان يحتاجها دحمان ومرزاق في غربتهما."صمت دحمان لحظة، ثم قال بصوت منخفض أحتاج رائحة أمي"[xxxv]. "ودهمني [يقول مرزاق] عطر أمي الأزلي، رائحتها التي تنبعث من مكان ما في السماء، كأنني أشمها منها حقيقة، تغمرني ووجهي بين رقبتها وكتفها اليسرى، وضعت رأسي بين ذراعيّ على الطاولة، واستسلمت لبكاء مرير، فيما كانت رائحتها تنتشر فتملأ المكان"[xxxvi]. إنها الرائحة التي جعلت مرزاق لا يتوقع أنها مشتركة بينه وبين دحمان، رغم شعوره بمدى التشابه والتطابق الموجود بينهما، في اليتم والمأكل والملبس، وفي التفكير والعادات والتقاليد.
فرائحة الأم هنا لها دلالة لا تخرج عن نطاق الفقد والحنين الذي يستشعره كل من فقد أمه، أو من ابتعد عن وطنه، وعاش مرارة التغرب، والأم في النص، هي الأم التي حملتنا وهنا وكُرها، وهي الوطن الذي نعيش فيه، والأرض التي ندب عليها ونَحِنُ إليها دوما؛ إنها الفردوس المفقود في أرض المهجر والغربة لدى معظم الشخصيات الروائية.
إن نص هاوية المرأة المتوحشة مليء بالروائح والعطور، وإن كانت رائحة الأم/الوطن تسيطر على النص وتغمره. ومن الروائح المنتشرة في النص رائحة الموت والبارود الممزوجة برائحة الدم التي تعبر عن العشرية الدموية، والتي جعلت دحمان يكتشف المسافة التي أطلقت منها النار على صديقه الطبيب رضا، ويتقين من عدم نجاته. "قلت له ذلك وأنا متيقن من أنه لن ينجو، فالقرية بعيدة، والإصابات بليغة، ورائحة البارود في قميصه المختلطة برائحة دمه تؤكد أن الرصاص أطلق من مسافة قريبة جدا"[xxxvii]. ومن الروائح كذلك رائحة دورة المياه المتغيرة التي من خلالها كان يتنبأ بزيارة بعض الأقارب والضيوف للبيت. "خرجت من دورة المياه، وفيما راحت تسكب الحليب في إناء وتضعه على النار؛ سألتني عن هوية الشخص الذي كان عندي اليوم في البيت، فانفجرت ضاحكا، لقد جندلني سؤالها، ليلقي بي في أحضان طفولتي السعيدة، أرجعتني إلى ما يقارب أربعين سنة إلى الخلف؛ إذ كنا نعلم من خلال دورة المياه؛ إن كان زار بيتنا أحد، فرائحة براز الأغراب تختلف عن رائحة براز أهل الدار، لما كبرت علمت أن ذلك مرده إلى النظام الغذائي الذي يختلف من أسرة إلى أخرى"[xxxviii].وهكذا فقد أخذ مفهوم الرائحة في الرواية أبعادا ودلالات اجتماعية ونفسية وسياسية وتاريخية، فهي الأم، وهي الوطن، وهي تاريخ البلاد المزيف، وهي العشرية السوداء، وهي الغربة والهجرة.
خاتمة:
بقي أن نشير في الأخير إلى أن رواية هاوية المرأة المتوحشة نص ثقافي بامتياز؛ لأنه منفتح على أنساق دلالية مضمرة، بعضها تمكنت هذه الدراسة من الكشف عنه، وبعضها الآخر لا يزال معتما ومضمرا، نأمل أن تكشف عنه دراسات أخرى قادمة، وذلك من قبيل البحث في نسق الموضة والعادات والتقاليد التي تميز طبيعة الحياة والعيش لدى المجتمعات المختلفة والمتنوعة، وهو ما يؤسس لما عرف بأدب المدينة، وأيضا نسق الاندماج في عمق الواقع الاجتماعي للطبقات البسيطة، وفي الأوساط الفقيرة كالأحياء الشعبية بما يؤسس لنسق البحث الأنثروبولوجي والإثنوغرافي في النصوص الأدبية، وكذلك نسق الهجرة والغربة، ونسق الهامش والحياة التي لم تبرح دورة المياه على حد تعبير الكاتب نفسه.
إن نص الهاوية نص مكبل بالرموز والرسائل المشفرة، ومتخم بالأنساق المضمرة، مما يستدعي مقاربته في نطاق ما عرف بالدراسات البينية التي تفرض على الناقد أن يتسلح بأدوات نقدية متنوعة، وأن ينفتح على مجالات معرفية مختلفة، ولعل ذلك هو سر تميز نص هاوية المرأة المتوحشة، ومفتاحه التأويلي.
[i]: أصدر الكاتب مجموعتين قصصيتين، المجموعة الأولى: "قليل من الماء لكي لا أمشي حافيا" سنة 2016، والمجموعة الثانية "عبد الله البردان" سنة 2018. كما صدر له مجموعة شعرية موسومة: "رقصة الحمأ المسنون" سنة 2000، ومسرحية سنة 2001 معنونة "جلالة المتخم الثاني".
[ii]: شعيب حليفي، ثقافة النص الروائي، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2016.
[iii]: واسني الأعرج، محي الدين اللاذقي وآخرون: نبيل سليمان أو ربع قرن من الكتابة، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 1996، ص: 58.
[iv]: يشير "كمال الرياحي" إلى أن هذا العنوان قد اعتمده واسيني الأعرج عنوانا أصليا لروايته حارسة الظلال قبل أن يستعيض بالعنوان الفرعي في طبعاتها الأخرى. فقد حمل عنوان الرواية لأول مرة اسم المرأة المتوحشة سواء في طبعتها الفرنسية (Le ravin de femme sauvage, ENAG Edition, alger, 1997). أو في طبعتها الجزائرية المترجمة (منحدر المرأة المتوحشة، ترجمة: زينب الأعوج وماري فيرول، موفم للنشر، الجزائر، 1997). كما يشير أيضا إلى أن هذا العنوان يحيل مباشرة على عنوان النص المسرحي femme sauvage La لكاتب ياسين. (ينظر، كمال الرياحي، الكتابة الروائية عند واسيني الأعرج: قراءة في التشكيل الروائي لحارسة الظلال، منشورات كارم الشريف، المغاربية للطباعة والإشهار، ط1، تونس، 2009، ص: 27، 28).
[v]: شارك الرسام والفنان التشكيلي الفرنسي "أوغست رينوار" في محاولة تزييف حقيقة هاوية المرأة المتوحشة من خلال رسمه للوحة عن المرأة المتوحشة سنة 1881 وذكر أنها فتاة فرنسية كانت تدير مقهى بمفردها وسط الغابة.
[vi]: نسبة إلى الشهداء الثلاثة الإخوة مدني.
[vii]: سارة سليم، هاوية المرأة المتوحشة رواية الجزائري عبد الكريم ينينة: سرد منفتح على الإنسان واستكمال التاريخ، القدس العربي، العدد: 10576، 27/ 03/ 2022، ص: 21.
[viii]: عبد الكريم ينينه، هاوية المرأة المتوحشة: رائحة الأم، دار ميم للنشر، الجزائر، ط1، 2021، ص: 17.
[ix]: ينظر، مخلوف عامر، هاوية المرأة المتوحشة لعبد الكريم ينينة رائحة الأم، النادي الأدبي بجريدة الجمهورية، يوم: 31/ 05/ 2021.
[x]: ينظر الحوار الذي أجراه الروائي مع جريد الشعب ويكاند. 15/04/ 2021. العدد: 18534، ص: 24.
[xi]: الرواية، ص: 35.
[xii]: الرواية، ص: 13.
[xiii]: ابن منظور، لسان العرب، مج5، دار صادر، بيروت، لبنان، مادة (هزز).
[xiv]: الرواية، ص: 19.
[xv]: الرواية، ص: 14، 15.
[xvi]: الرواية، ص: 220.
[xvii]: الرواية، ص: 190، 191.
[xviii]: ينظر، محمد الأمين بحري، مبدأ السرد التكاملي في رواية هاوية المرأة المتوحشة، مجلة الكلمة، العدد 174 أكتوبر 2021. http://www.alkalimah.net/Articles/Read/22213
[xix]: الرواية، ص: 220.
[xx]: محمد الأمين بحري، مجلة الكلمة، العدد 174. http://www.alkalimah.net/Articles/Read/22213
[xxi]: الرواية، ص: 158.
[xxii]: ربيحة حدور، "هاوية المرأة المتوحشة"، كتابة لمقاومة النسيان، إضاءة نقدية على مستوى السرد والنسق الدلالي، الفجر الأدبي، 16 ديسمبر 2021. ص: 13.
[xxiii]: الرواية، ص: 26.
[xxiv]: المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[xxv]: الرواية، ص: 20، 21.
[xxvi]: محمد برادة، الرواية ذاكرة مفتوحة، آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط1، 2008، ص: 05، 06.
[xxvii]: حميد عبد القادر، الرواية مملكة هذا العصر، دار ميم للنشر، الجزائر، 2019، ص: 10.
[xxviii]: رضا الأبيض، كتابة الرائحة في نماذج من الرواية العربية، دار زينب، تونس، ط1، 2020.
[xxix]: رسول محمد رسول، عطر الكتابة السردية، قراءة في المتخيل الإبداعي العربي، إصدارات دائرة الثقافة، حكومة الشارقة، دولة الإمارات، ط1، 2018.
[xxx]: رضا الأبيض، المرجع السابق، ص: 19.
[xxxi]: ينظر، رسول محمد رسول، المرجع السابق، ص: 07.
[xxxii]: رضا الأبيض، المرجع السابق، ص: 23.
[xxxiii]: الرواية، ص: 21.
[xxxiv]: الرواية، ص: 154.
[xxxv]: الرواية، ص: 167.
[xxxvi]: الرواية، ص: 167، 168.
[xxxvii]: الرواية، ص: 86.
[xxxviii]: الرواية، ص: 153.