الاستاذ عريس نصرالدين       مادة علم النفس الايجابي                          السنة اولى ماستر عيادي

الجذور التاريخية لعلم النفس الإيجابي

 

من خلال تطرّقنا لمواضيع علم النفس فإنّنا نلمح تغيير كبير، حيث أنّنا كلّما تحدثنا عن علم النفس، نربطه إرتباطًا وثيقًا بالعالم والطبيب والمحلل النفسي "فرويد" الذي يعتبر الأب الروحي لعلم النفس، والذي أعطانا نماذج عن الحالات المرضية فقط. إلاّ أنّه وبعد الحرب العالمية الثانية أصبح هذا العلم أكثر إهتمامًا بدراسة وعلاج الاضطرابات النفسية، إلاّ أنّه قد أهمل نقطة جدّ مهمّة وهي أنّ الإنسان السوي والغير مضطرب والقادر على الإنجاز والعطاء وتحقيق الذات يمكن استثماره في الرقي ومساعدة المجتمع على التقدم، وأنّ التعامل مع هذه الأمور بجدّية وإيجابية في علم النفس يعدّ أقوى وأكثر فاعلية في مجال العلاج النفسي. وبالتالي فإنّ الاهتمام المتزايد بدراسة الحالات المرضية المضطربة والشاذة رسخ لدى الآخرين فكرة بأنّ علم النفس هو علم يدرس الجانب السيكولوجي السلبي دون الإيجابي بالرغم من أهميته، وتجاهل مدى فعالية وأهمية الجوانب الإيجابية في الحياة، كالتفاؤل، والأمل والسعادة، والرضا عن الحياة، والتي تؤثر بشكل إيجابي في نمو الإنسان.

ومن هذا المنطق نأكد أن علم النفس التقليدي ركّز على السلبيات من مرض نفسي، ونماذج للسمات المرضية، والضعف والتلف فقط وأهمل الجانب الإيجابي الذي يعالج الضعف ويغذي القوّة لدى الفرد.

وهذا ما جعل الأنظار تغيّر وجهتها وتتطرّق لأمور إيجابية تتمثل في موضوعات متعلقة بالصحّة والتطوّر الإيجابي ومهدت لطريق انتشار علم النفس الإيجابي.

أوّلا: نشأة علم النفس الإيجابي:

بدأ علم النفس الإيجابي يظهر بمثابة عصر جديد في علم النفس سنة 1998 حين اختاره "مارتن سليغمان" الّذي يعتبر أب هذه الحركة الحديثة لما تولى رئاسة الرابطة الأمريكية لعلم النفس، و إتخذ من علم النفس الإيجابي موضوعًا لولايته للرابطة. APA. إلاّ أنّ هذا المصطلح بدأ مع ماسلو الّذي ينتمي للتيار الإنساني سنة 1954 في كتابه بعنوان "الدوافع الشخصية".

ردّد سليغمان أصداء قول"ماسلو " من أنّ علم النفس قد أمضى أكثر من نصف قرن مأخوذًا في موضوع وحيد هو المرض العقلي. كما حث سليغمان علماء النفس في التركيز على تنمية المواهب والفضائل وتحسين حياة الأسوياء وصولاً إلى حالة الإزدهار الإنساني.

"سليغمان" هو في الأصل أستاذ علم النفس العيادي بجامعة بسلوفانيا، ومدير مركز التدريب على علم النفس العيادي بتلك الجامعة، ومن خبراء العلاج المعرفي للاكتئاب والمرض النفسي. ولابدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى أنّه كان في الأصل معالجًا سلوكيًا. ومع بروز طريقة العلاج المعرفي لـ "بيك" تحوّل سليغمان لإتباعها وممارستها، والتي تركز أساسًا على تعديل الأفكار المغلوطة وإستبدال الأفكار السلبية التشاؤمية الإنهزامية، بالأفكار الواقعية والإيجابية، وبالتالي يمكن القول أنّ علم النفس الإيجابي هو وليد للعلاج المعرفي على الصعيد العملي.

ولقد وضع "سليغمان" هدفا لعلم النفس الإيجابي الوليد يتمثل في التحوّل من الإنشغال الوحيد بإصلاح أسوأ الحالات في الحياة إلى بناء أفضل الصفات إذ لابدّمن توازن ما بين علاج الإضطرابات و بين بناء الإمكانات و الإيجابيات. (مصطفى حجازي، 2012).

تتمثل رسالة علم النفس الإيجابي تبعًا "لسليغمان" في تذكير علماء النفس العيادي و الصحة النفسية، بأنّ هذا العلم ليس مجرّد دراسة المرض و العجز و الضرر، بل هو أيضًا وفي موازاة ذلك، دراسة القدرات و الفضائل الإنسانية. إنّه ليس مجرّد إصطلاح للخلل، بل هو كذلك البناء الصحيح و الصحي. وليس مجرّد إهتمام بالمرضي، بل كذلك إهتمام بتنمية قدرات العمل و الحب و النمو و الفرح، وصولاً إلى السعادة.

ومع أنّ مقوّمات تيار علم النفس الإيجابي كانت مهيأة علميًا من خلال الأبحاث والآراء التي عمل عليها كل من "ماسلو" "روجرز" وحركة العلاج المعرفي والعلاج العقلاني والانفعالي. إلاّ أنّ إبنة العالم الأمريكي مارتن سليغمان ذات الخمس سنوات كان لها الفضل في ظهور هذا التيار من خلال ردّها التلقائي على أبيها والّذي أدى إلى تغيير كبير في مسيرته الأكاديمية، حيث تبدأ الحكاية حين شعر بالإنزعاج منها وهي تحاول لفت إنتباهه، بينما كان يقوم بالعناية بحديقته المنزلية، فقام بتوبيخها كما يقوم عادة وحينها نظرت إليه وقالت: إنني استطعت وبمجهود ذاتي أن أتخلص من بكائي المتكرر في سن الثالثة والرابعة حين أصبحت في الخامسة، وأنّه لا حاجة لأن يكون متعكر المزاج هكذا. ولقد دفعته ملاحظة أبنته هذه إلى التحوّل من التأديب والتقويم، إلى النظر في الروح وتنمية ما في الأطفال من إمكانيات وإيجابيات وأوجه القوّة. دفعته هذه الحادثة أيضًا إلى التفكير والوعي بذاته وإلى ما لديه من إمكانيات وطاقات وكيف يمكنه تنميتها بدلا من تركيزه المتكرر على نقاط ضعفه ومزاجه المتعكر. هذه الحادثة ببساطتها كانت سببًا في سلسلة من التغيّرات في فكر "مارتن سليجمان" نتج عنها ما يعرف الآن بعلم النفس الإيجابي.(كريم أبو زيد، 2015).

ثانيا: الجذور التاريخية لعلم النفس الإيجابي:

إن أقدم الأصول والجذور التاريخية لعلم النفس الإيجابي تكمن في فكرة مؤداها أن الإنسان كمخلوق كريم على الله وعلى نفسه نزل إلى الأرض ليعيش حياة جادة حسنة تحقق له كل طموحاته المشروعة من دون أن يكون ذلك على حساب الآخرين. ومن ثم أصبح البحث عن هذه الحياة الكريمة تتصدى للإجابة عنها الأديان السماوية و جميع أنواع الفلسفات بعد ذلك. وحاول الإنسان بمختلف ثقافاته وحضاراته أن يصل إلى إجابة صحيحة على هذا السؤال: كيف نعيش حياة سعيدة كريمة؟

وبالطبع بعد ظهور علم النفس كانت له جهود سبقتها إرهاصات دينية وفلسفية خاصة في عصر النهضة بصفة عامة وفي القرن الثامن والتاسع عشر والعشرون. ظل الحال على هذا المنوال بحيث كان يرى بعض الفقهاء أن الحياة السعيدة تكمن في القناعة والرضا بالقليل والإنتاج والإنجاز والتدين وعمل الصالحات، بينما رأى الفلاسفة أن السعادة تكمن في الحرية، وآخرون رأوا أنها تكمن في معرفة الحقيقة حدسيا، وفكريا، أو في الاشباع المادي، أو في الاشباع النفسي، إلى أن ظهر علم النفس في أواخر القرن التاسع عشر، وبدأت تظهر اسهاماته الحقيقة في القرن العشرين، وقدم مذاهب ومدارس كالتحليل النفسي والسلوكية والبنائية المعرفية، والإنسانية والوجودية، الظواهرياتية، طرحت تفسيرات نفسية للحياة السعيدة الكريمة والخبرة الإنسانية بشكل عام.

ومن ثم أصبح الجذر التاريخي الثاني لعلم النفس الإيجابي هو إسهامات بعض فروع علم النفس الأساسية و التطبيقية في تشكيل تراكم لا بأس به انطلق منه هذا العلم، وكانت أهم هذه الاسهامات تتمثل في أعمال فرويد وأرائه حول مبدأ السرور (اللذة و المتعة) وأفكار كارل يونج حول مبدأ الكمال الشخصي. وتنظير أدلر حول الجهاد أو الكفاح الفردي المدفوع باهتمامات وميول اجتماعية، وأعمال فرانكل في البحث عن المعنى في ظل أسوأ ظروف الحياة حزنا وهما وكآبة.

أما الجذر الثالث: فيتمثل في اسهامات علم النفس الإنساني وهي الاسهامات التي بلورت وجهة النظر الأساسية لهذا العلم في البحث عن الذات و أهمية الخبرات الإنسانية الإيجابية في الحفاظ على الإنسان ووقايته من الإضطرابات النفسية و الأمراض الجسمية، وتنشيط جهاز المناعة لديه.

أما الجذر التاريخي الرابع، فيتمثل في الكتاب الرائع الذي أصدرته ماري جاهودا"Marie jahod" وهي من العلماء الذين عاصروا كارل روجز وابراهام ماسلو تحت عنوان المفاهيم المعاصرة للصحة النفسية الإيجابية، وهو كتاب يمثل دراسة حالة حقيقية لأسس الفهم العلمي للتنعم النفسي وليس مجرد غياب الكرب النفسي والمعاناة منه، وعليه فقد اعترف بيترسون وسليجمان أن الرؤية العلمية التي طرحتها ماري جاهودا في مسألة الصحة النفسية الإيجابية تعد إحدى اللبنات الأساسية في حركة تأسيس علم النفس الإيجابي حتى اليوم ومستقبلا، وأردفا يقولان، إنها لم تضع-تاريخيا- أحد أسس علم النفس الإيجابي وواحدا من أهم أصوله فقط عام 1985، ولكنها بإطار عمل شارح لفهم مكونات الصحة النفسية (بالإضافة إلى فهم المرض النفسي والعقلي). فهي قد طرحت وفقا للفترة التي ظهر فيها إسهامها في علم النفس ستة عمليات ترى أنها تسهم في إحداث حالة الصحة النفسية هي: تقبل الفرد لذاته، وعملية النمو والتطور كقاعدة للمستقبل والبزوغ، و تكامل الشخصية، والاستقلالية والحرص على التفرد، والإدراك الدقيق للواقع والسيادة أو السيطرة على البيئة أو التفوق أو التمكن البيئي.

أما الجذر التاريخي الخامس والأخير، ولكنه جذر معاصر، فيتمثل في أعمال كوكبة من علماء النفس المتخصصين في التعلم الاجتماعي والشخصية وعلم النفس المرضي وعلم النفس الإكلينيكي، وهي أعمال علمية شديدة الدقة والصرامة فحصت الخبرات النفسية والإنسانية والإيجابية في السياق الاجتماعي المعرفي وفي السياق الشخصي، و أبرزهم باندورا ودراساته في فعالية الذات (1989)، ودراسات وينر (winner) الموسعة في الموهبة والعبقرية و التفوق. وما طرحه فؤاد أبو حطب وسالوفي وزملائهم حول التصورات العلمية المتعددة للذكاء.

ولا ننسى جهود الباحثين في علم النفس المرضي وعلم النفس الإكلينيكي في إرساء قواعد علم النفس الإيجابي وخاصة دراساتهم في مجالات الوقاية والسلوك الصحي، والاعتقادات الصحية، والدراسات الموسعة في موضوع نوعية الحياة السعيدة الإيجابية بين العاديين من البشر، في مقابل المرضي النفسانيين.

وكذلك كل الدراسات التي مثلت كل النقاط التي تقع على طول متصل الخبرة الإنسانية الإيجابية. السلبية التي غطت كل الشرائح الإجتماعية في أي مجتمع، بل وحتي التلاميذ في فصولهم الدراسية وحتي الذين يترددون على حجرات الاستشارة النفسية وعياداتها. وكان من طليعة الباحثين الذين طبقوا مفاهيم أقرب ما تكون لمفاهيم علم النفس الإيجابي في برامج الوقاية التي تنطلق من نظريات العافية أو التمتع بالصحة الإيجابية.

واستطاع الباحثون في علم النفس الإكلينيكي والطب النفسي والعصبي اكتشاف الأسس الحيوية للحياة السعيدة أو التنعم والخبرة الإنسانية الإيجابية، فقد انتهي تايلور وزملائه من مجموعة من البحوث إلى أن السيدات يستجبن للضغوط عن طريق الخروج والبحث عن صديقاتهن وأصدقائهن الذين يكونون ضمن شبكة علاقاتهم الاجتماعية ويدفعهن إلى هذا السلوك الإجتماعي هرمونات دماغية محددة تنظم العواطف والانفعالات الإيجابية تنظيما جزئيا، من أبرزها هرمون الاكسيتوسين وإنزيمات أو آليات الهضم الداخلية.(الصبوة محمود، 21:2008-25).

 

Last modified: Monday, 30 October 2023, 8:38 PM